يقول المؤمنون بالعشوائية إن مجرة درب التبانة تكونت من رحم الفوضى التي تمثلت في الانفجار العظيم، والأرض نفسها تكونت من فوضى تصادم شمسنا مع شمس أُخرى، سُلخت من جسديهما كتل ملتهبة، شكلت فيما بعد كواكب المجموعة الشمسية، لتنطلق من بينها «الأرضُ» كالشظية الساخنة، لتبرد وتتهيأ بعد ذلك، على مدار ملايين السنين لاستقبال الحياة، لنتوهم أن هذه «الشظية» قد بردت وتهيأت من أجلنا فقط، بينما لم يُسعف الحظ مليارات الشظايا الأُخرى في مجرات الكون العديدة أن تتهيأ عليها فرص الحياة. هل هي صدفة سعيدة جاءت بنا، وحالة فريدة انبثقت من رحم العشوائية؟؟ هل وجودنا هو الغاية من خلق الأرض؟ أم أننا مجرد ناتج عرضي نما على هامشها؟! أم أن وجودنا تدبير وحكمة من لدن إله قدير، لا نعلم إذا كرر العملية في أماكن أُخرى؟!
ولو عدنا بالزمن 4.7 مليار عام، وهو العمر الذي يقترحه العلماء لكوكب الأرض، لوجدنا كوكباً ملتهباً، ويدور حول نفسه مرةً كل ثماني ساعات، والقمر على مسافة قريبة جداً منه، بحيث كان تأثيره بالغاً على توجيه ميل محور الأرض وجعله غير مستقر، الأمر الذي أخّر حصول التغييرات المناخية اللازمة لنشوء الحياة، حيث إن زاوية ميل محور الأرض ضرورية لتكوّن الدوائر القطبية، وتوزيع كمية الحرارة الشمسية على سطح الأرض، ما يجعله أحد العناصر الأساسية لاستقرار مناخ الأرض وتتابع الفصول الأربعة. وكانت الأرض في ذلك الزمن السحيق الذي يسمى عصر الجحيم، بلا غلاف جوي يحميها من إشعاعات الشمس القاتلة، وقشرتها غير مستقرة، تتفجر فيها البراكين على نحو مجنون، وتضربها الزلازل والصواعق والبروق، ولا يوجد بها ماء ولا أوكسجين، وتتعرض لقصف نيزكي شديد البطش.. بجملة واحدة كانت غير صالحة للحياة. ولكن بعد مليارات السنين، تغيرت كل تلك الظروف بالشكل الذي سمح بنشوء الحياة.
العالم الروسي «أوبريان ألكسندر» في عشرينات القرن الماضي، وضع نظريةً مفادها إمكانية نشوء مُركّبات عضوية بسيطة من مواد لا عضوية، بوجود غازات الجو، وبتأثير البرق وأشعة الشمس فوق البنفسجية، وهي ما تعرف بنظرية التخلق اللاحيوي، التي تفترض أن منشأ المادة الحية لأول مرة كان نتيجة تفاعل بعض المواد غير الحية، حدث هذا عند ظروف خاصة جداً. وفي العام 1953 تمكن العالمان «ستنلي ميلر» و»هارولد أورلي» من جامعة شيكاغو من تجربة صحة هذه النظرية لأول مرة، بخلق ظروف مشابهة لظروف الأرض في مراحلها الأولى، وذلك بتصميم نظام مغلق يتكون من حاوية زجاجية مرتبطة بأنابيب يحتوي هواؤها على الميثان والأمونياك والهيدروجين الذي كان يسبح فوق ماء مغلي، والذي يفترض أن يشابه نبع ماء حار فوق بركان بحري، ومع إطلاق شرارة كهربائية، تشبه بفعلها الصواعق. وكان هذا كافياً لتشكل بروتين أولي، مكونٍ من ثلاثة أحماض أمينية، وهي ثلاثة من أصل عشرين حامضاً أمينياً تتكون منها جميع أنواع البروتينات الحيوية لأي كائن حي، وهي اللبنات الأساسية للحياة. وهذا يعني أن موجات الإشعاعات الشمسية والبرق أعطت الطاقة للمواد غير الحية التي كانت تملأ الأرض وأجبرتها على الدخول في تفاعلات كيماوية، أنتجت مواد عضوية، ومن ثم سلاسل الأحماض الأمينية لتخرج من رحمها الحياة. أي وباختصار شديد، وُلدت الحياة من الکيمياء البدائية بعد أن أنتجت الأحماض الأمينية، والأحماض الأمينية جاءت بالأحماض النووية، والأحماض النووية ولدت الشفرة الوراثية والتي هي أساس الحياة.
يؤكد العلماء استحالة الصدفة في تكوين بروتين يسمح من خلاله نشوء كائن حي.. ولكن وإن كان ذلك إحصائياً صحيحاً، إلا أنه يفصح عن إشكالية في طريقة التفكير، وإساءة في استخدام الرياضيات لإثبات وجهات نظر مسبقة. حيث أن هذا الطرح يقلب المشكلة رأساً على عقب، أي المشكلة التي كان يتوجب على الطبيعة حلها عند نقطة البدء، فالطبيعة كما يقول «ديتفورت» لم تكن مجبرة على أن تعيد عن طريق الصدفة إنتاج شيء كان موجوداً، أي صف الأحماض الأمينية التي شكلت البروتين الأول بكل تفاصيله وجزيئاته، فما كان موجوداً في الطبيعة آنذاك كان بالغ التواضع، ولكنه كان كافياً لبدء عملية التطور، نظراً لغياب المنافسين، ولأن القيود المفروضة على الطبيعة كانت أقل.
وطالما أسقطنا المنطق الخاطئ للإحصاء، الذي بدا كما لو أنه ينفي إمكانية نشوء حياة على الأرض، وقد نفى بالفعل إمكانية نشوئها على كواكب أخرى، فإن نفس المنطق يقودنا إلى الاستنتاج بإمكانية وجود كوكب ما في أطراف الكون على مسافة مناسبة من شمس خاصة به، وبظروف تسمح بنشوء حياة عليه، وبالتالي إمكانية وجود مخلوقات أُخرى تتمتع ببهاء هذا الكون وتدرك مدى عظمة الخالق، غير سكان الأرض.
إحصائياً، من الممكن وجود حياة على كوكب آخر، طالما أن الكون يحتوي على مليارات النجوم والكواكب، ولكن في حال توفرت لكوكب ما ظروف ملائمة لنشوء خلية حية تمكّنها من بدء عملية التطور، فإن سكانه من الكائنات الحية حتماً سيكونون مختلفين عنا أيما اختلاف، وسنرى منهم كل ما هو عجيب وغريب من أنماط الحياة، لأن المعايير الأرضية التي شكلت حياتنا ليست معايير ملزمة على مستوى الكون، فما يبدو لنا غير محتمل، يمكن أن يكون لمخلوقات أُخرى في أماكن أُخرى مريحاً جداً، أو ربما مفضلاً.
المشكلة أن أقرب مجرة علينا تبعد عنا مليوني سنة ضوئية (جارتنا: «المرأة المسلسلة-أندروميدا»)، وإذا كان فعلاً هنالك سكان في إحدى المجرات القريبة أو البعيدة، فإن اكتشاف ذلك بالوسائل المعروفة حالياً أمر مستحيل، لأنه يعني ببساطة أن علينا الانتظار لملايين السنين قبل أن يصلنا أي رد من ذلك الكوكب المأهول، والاحتمال الوحيد هو أن يكون سكانه قد سبقونا حضارياً بزمن طويل، واكتشفوا أمرنا فبعثوا لنا برسائلهم قبل ملايين السنين لتصلنا في الوقت الحاضر، فنتيقن حينها أننا لسنا الوحيدين في هذا الكون، ولسنا أذكى المخلوقات فيه. وهذا مجرد فرض تخيلي لا يمكن للعلم أن ينفيه أو يؤكده. فغياب الدليل ليس دليلاً على الغياب.
لقد توهمنا طويلا بأننا مركز الكون، وآن لنا أن ندرك مدى ضآلتنا في الكون الفسيح.. وأمام خالقه العظيم.