لا أعرف رئيساً محترماً لدولة محترمة تفتخر بادعائها حماية قيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، يتماهى مع تدخلات خارجية صريحة وفظة في شؤون بلاده وتتعمد – التدخلات - توجيه إهانات واتهامات صعبة لرئيس لم يغادر بعد موقع المسؤولية.
هذا يحصل في الولايات المتحدة الأميركية التي يصمت رئيسها المنتخب الذي سيدخل البيت الأبيض بعد عشرة أيام إزاء الإهانات التي لا تتوقف من قبل مسؤولين رسميين إسرائيليين بحق الرئيس باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري وبقية أفراد إدارته.
ربما يمكن تجاهل التصريحات التي أدلى بها الرئيس المنتخب ترامب خلال الحملة الانتخابية، على اعتبار أنه لم ينتقل بعد إلى موقع المسؤولية الرسمية، وهذا يحصل كثيراً حيث لا تتطابق المواقف بين موقعين من خارج أو على رأس المؤسسة، لكن ترامب واصل التمسك بمعظم ما أدلى به من تصريحات. بل وثمة تركيز من قبله ومن قبل عديد المسؤولين الذين اختارهم ليكونوا جزءاً من طاقمه.
الرئيس الجديد يهدد بالقيام بانقلاب واسع على الإدارة الديمقراطية ورئيسها باراك أوباما، التي استقرت على الحكم لثماني سنوات متواصلة. التساؤل المبدئي الذي ينهض هنا هو هل المشكلة في ترامب الذي لم يخف آراءه ومواقفه واتسمت بالتطرف والتوتر، أم أن المشكلة في تدني مستوى وعي الرأي العام الأميركي الذي اختار ترامب رئيساً؟
ثمة من يرى أن انتخاب ترامب سيهدد مكانة الولايات المتحدة ويجرها نحو مزيد من الضعف والتراجع وذلك استنتاج لا يرتبط فقط بوعي الناخب الأميركي وإنما أيضاً بالتحولات الجارية على مستوى علاقات القوة دولياً.
مع تصريحات ترامب وقبل دخوله إلى البيت الأبيض تتشكل لوحة من المواقف الحذرة التي تنبئ بأن الرئيس المقبل سيجر بلاده إلى العزلة التدريجية حتى من قبل أقرب حلفاء الولايات المتحدة ونقصد الدول الأوروبية.
من الواضح أنه كلما اقتربت الولايات المتحدة أكثر فأكثر من إسرائيل المدانة والمعزولة دولياً، جرّ ذلك المزيد من العزلة عليها. القضية الفلسطينية لم تعد كمثال قضية الفلسطينيين ومعهم العرب وحتى المسلمون، وإنما أصبحت قضية دولية بامتياز وإلا ما معنى قرار مجلس الأمن 2334 وما معنى أن تصر فرنسا رغم أنف إسرائيل على مواصلة العمل لعقد المؤتمر الدولي؟
ترامب ومستشاروه لم يتوقفوا عن ترديد عزمهم على نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، ذلك القرار الذي ظلّ معلقاً منذ عقود دون أن تبادر أية من الإدارات السابقة إلى تنفيذه. لا شك أن ترامب وإدارته الجديدة يعلم يقيناً أبعاد تنفيذ مثل هذا القرار ويقدر النتائج التي ستقع بعد ذلك، بما في ذلك أن الولايات المتحدة ستتحمل المسؤولية بالتساوي مع إسرائيل إزاء إقفال طريق السلام نهائياً.
القرار في حال تنفيذه يعني الكثير والخطير على المدى المنظور والمتوسط، ذلك أنه على المدى الاستراتيجي لا يعني أن الفلسطينيين سيتخلون عن حقوقهم التاريخية حتى لو امتد الصراع لألف عام. الواضح أن تنفيذ القرار يعني التالي:
أولاً: أن الولايات المتحدة تنقلب على سياساتها المعروفة تجاه الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي نحو سياسة أكثر تطرفاً لجهة دعم السياسة الإسرائيلية ومعاداة الفلسطينيين، وأن هذا الانقلاب يستهدف تجاوز حالة الانحياز المعروفة لإسرائيل إلى التطابق الكلي مع السياسة والأهداف الإسرائيلية.
ثانياً: يعني ذلك أن الولايات المتحدة تتحدى الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، وتضرب قراراتها بعرض الحائط، ما يشكل مقدمةً لنسف بقية القرارات التي اتخذتها الأمم المتحدة بخصوص القضية الفلسطينية وما يترتب عليها من حقوق، الأمر الذي سيفقد الأمم المتحدة دورها في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، رغم أنها وفي وضعيتها الحالية تقصر كثيراً عن الالتزام بالأهداف التي أنشئت من أجلها المنظمة الدولية.
ثالثاً: الولايات المتحدة ستجد نفسها في مواجهة مع الأمم المتحدة، حيث إنها في هذه الحالة تهدد بالتوقف عن تقديم حصتها من موازنة المؤسسة الدولية، ما سيشل هذه المؤسسة، لأن الولايات المتحدة هي صحابة المساهمة الأكبر في موازنتها، ما قد يؤدي إلى فلتان دولي وفوضى غير خلاّقة ومدمرة.
رابعاً: سيشجع تنفيذ القرار إسرائيل على توسيع وتصعيب مخططات الاستيطان والتهويد في القدس والضفة الغربية، وربما يشجع إسرائيل على الاستعجال في ضم الضفة، ما سيفتح الصراع على أوسع أبوابه.
ومن حيث المبدأ فإن مثل هذا الفعل الخطير يحشر الفلسطينيين في الزاوية بحيث يدفعهم نحو اتخاذ مواقف وإجراءات عملية مضادة، لا تخدم خط الاعتدال السائد بل قد تدفع أصحابه إلى مربع تصعيد المقاومة بكل أشكالها.
خامساً: ستكون الولايات المتحدة قد وضعت المزيد من العراقيل والصعوبات أمام كل دولة عربية وإسلامية، تعمل من تحت الطاولة أو من فوقها لإقامة علاقات أو تعاون مع إسرائيل، فضلاً عن أن ذلك سيصعد حالة العداء الشعبي تجاه الولايات المتحدة ومصالحها في المنطقة.
حتى الآن يتخذ الموقف الفلسطيني طابع التحذير والتهديد، ولم تتقرر بعد المواقف التي سيتخذونها في حال أقدم ترامب وفريقه على تنفيذ القرار. إذا كان ذلك صحيحاً ومقبولاً في التكتيك السياسي، فإنه يترتب على الفلسطينيين تجنيد حملة واسعة إقليمياً ودولياً لتوليد حالة من الضغط الشديد المسبق، لعل ذلك يرغم ترامب وفريقه على إعادة النظر فيما تعهدوا به.
أسئلة كثيرة ذات تداعيات جذرية مطروحة على الفلسطينيين سيكون عليهم الإجابة عن عديد الأسئلة التي تتصل باتفاقية أوسلو ووجود السلطة وكل ما يتعلق بنهج المفاوضات والبحث عن السلام. في السياسة المقروءة مسبقاً لا يمكن تأجيل الواجبات كلها إلى مربع ردات الفعل، فثمة عاجل وآجل في اتخاذ القرارات واللافت للنظر أنه باستثناء تصريحات التحذير والتهديد ليس هناك ما يدل على وجود واجبات عاجلة من قبل الفلسطينيين.
وأول وربما أهم الواجبات المعجّلة هي ما يتعلق بالمصالحة واستعادة الوحدة، لأنه ربما سهّل الانقسام على القيادة الفلسطينية مواصلة تكتيكاتها وسياساتها على الساحة الدولية، لكن هذه المرة تحتاج السياسة الجديدة إلى كل أدوات الفعل الفلسطيني.