لسباقات العدو أطوالها ولها أبطالها في تكتيكات السرعة. في أقصرها (100م) يقعي المتسابقون متربصين، أصابعهم على ارض المضمار، وباطن أقدامهم على «رفّاص». الجميع على خط واحد متعدد المسارات. مع رصاصة الانطلاق يركضون بأقصى سرعة يستطيعون بسيقانهم وما في رئاتهم من هواء.
في سباقات أطول يقف المتسابقون 1000 ـ 3000م مثلاً على خطوط متعددة غير متساوية المسافات. يبدؤون الجري، ثم العدو، ثم الركض مع كل لفة في المضمار.. وفي الأمتار الأخيرة، يكون السباق الحقيقي، فالمتسابق المتصدر في اللفة الأولى لا يكون المتصدر في اللفة الأخيرة، وخاصة في الأمتار الأخيرة.
إبّان الحملة الانتخابية للرئاسة الأميركية بدأ سباق مواقف طويل حول الموقف الأميركي من «الحل بدولتين»، ثم صار السباق أقصر بعد انتصار دونالد ترامب وموقفه الجديد من نقل سفارة بلاده إلى القدس، أو نقل قرار الكونغرس القديم حول النقل، إلى فعل الرئاسة الجديدة، التي تتمنع بغالبية في مجلسي الكونغرس.
السؤال: كيف ستكون إجراءات التجسير بين قرار الكونغرس القديم (الذي أكّد عليه بعد القرار الأخير لمجلس الأمن) وتفعيل الرئاسة الجديدة لقرار النقل.
تفصلنا في سباق الأمتار العشرة الأخيرة، أو الأيام العشرة الأخيرة، خط البداية سيكون في 20 الشهر الجاري. هل سيؤكد الرئيس الـ45 في خطاب التتويج التزامه بنقل السفارة إلى القدس؟ هل سيحدد أجلاً عاجلاً للتنفيذ، بعد قرار الرئيس 44 تأجيل قرار النقل ستة شهور أخرى حتى منتصف العام الجديد؟ هل ستكون سفارة أميركا في القدس الغربية، وتحويل قنصليتها العامة فيها إلى سفارة؟ هل ستبقى قنصليتها العامة في القدس الشرقية ثم ترفع لاحقاً إلى درجة سفارة، إذا تحقق «حل الدولتين»؟ هل ستبقى السفارة، رسمياً، في تل أبيب، ويقيم السفير وحده في القنصلية غرب المدينة بدرجة سفير غير مقيم؟
كان مجلس الأمن قد أقر «الحل بدولتين» منذ أن طرحه الرئيس بوش ـ الابن 2003، لكن القرار الأخير (2334) أضاف إليه ترسيم الحدود بين الدولتين على اساس خطوط 1967، وكل تعديلات عليها خاضعة لتوافق الدولتين.. والإضافة الجديدة الأخرى والأهم هي «القدس عاصمة دولتين» وليس عاصمة إسرائيل وحدها!
هناك سجال في إسرائيل، لأسباب ديمغرافية وأمنية، لا يتعلق باعتبارها عاصمة إسرائيل، بل بدرجة «توحيدها» بين «قدس يهودية» وقدس جرى توسيعها لتضم 22 قرية أو حيّاً، بما يجعل الميزان الديمغرافي فيها يهدد «يهودية» ما يدعى بـ»عاصمة إسرائيل الموحَّدة»، خاصة إذا قرر حملة «هُويّة القدس» الفلسطينيون، المعتبَرون «مقيمين دائمين غير مواطنين» الاشتراك في انتخاب المجلس البلدي للمدينة، وليس التصويت في الانتخابات العامة للكنيست.
الرئيس المنتخب ترامب تحدث عن نقل قرار الكونغرس القديم إلى فعل سياسي جديد، لكن بصيغة «صفقة» لحل ما لمسألة «الحل بدولتين»، ولن تكون «الصفقة» مقبولة، عالمياً وفلسطينياً، دون اعتراف أميركا بالدولة الفلسطينية، وتالياً بالقدس «عاصمة دولتين».
سوى هذا، لن يكون تفعيل قرار الكونغرس بنقل السفارة إلاّ اعترافاً رئاسياً أميركياً بضم القدس إلى إسرائيل، وتالياً ضمّ الجولان، ولاحقاً الاعتراف بضم الكتل الاستيطانية في نطاق القدس وخارجها، أي محو التمييز الإسرائيلي بين «حدود» أمن إسرائيل، وحدود سيادتها.. وهذا هو انقلاب سياسي أميركي على مواقفها منذ العام 1967، وانسحاب أميركي فعلي وعملي من «الحل بدولتين»، وهو أمر من الصعب أن يمرّ بقرار من مجلس الأمن، أو بقبول دولي.
كان قرار التقسيم الدولي لعام 1947 قد تحدث عن دولتين يهودية وعربية، لكنه جعل القدس «جسماً منفصلاً» يشمل بيت لحم ورام الله، ومع توسع إسرائيل على حساب «دولة عربية» ولمساحة 78% من أرض فلسطين، جعل القدس مقسومة واقعياً بين قدس غربية (كانت غالبيتها الديمغرافية فلسطينية) وقدس شرقية بلا يهود إسرائيليين.
لم يعترف العالم بسيطرة إسرائيل على القدس الغربية بصفتها «عاصمة» لإسرائيل، ولا بالقدس الشرقية بصفتها عاصمة للالحاق الأردني والمملكة الأردنية.
القدس إبّان الحقبة الأردنية كانت مساحتها 6كم2، ومع الاحتلال ومشاريع الاستيطان والتهويد الزاحف جرى توسيع مساحتها الكلية إلى 78كم2 مع ضمّ 22 قرية وحيّاً إلى القدس الكبرى، واعتبارها، وراء جدار الفصل، عاصمة إسرائيل «الموحَّدة».
صارت القدس ذات سورين، أحدهما تاريخي للقدس العتيقة ومساحتها كم2 واحد وآخر كبير وممتد للقدس الموسعة بعد العام 2000، لكن بينهما حواجز أمنية مؤقتة بعد كل عملية.
القرار الأخير لمجلس الأمن، الذي أثار زوبعة في إسرائيل تحدث عن تعديلات جغرافية متبادلة ومتساوية المساحة، خاضعة للتفاوض والاتفاق، لكنه تحدث عن قدس عاصمة دولتين، بما يعني أن على أميركا تفعيل الحل بدولتين بما يشمل شرقي القدس عاصمة لدولة فلسطينية.
هكذا، صارت القدس عقدة كؤود لمسألة «الحل بدولتين»، ومنذ أوسلو صار كل رئيس وزراء أو مسؤول إسرائيلي يطالب بالانفصال الديمغرافي ـ الجغرافي عن أي حيّز أرضي بأنه «مقسّم القدس»!
إن نقل السفارة، بأي إجراء كان إلى القدس، يعني انسحاب أميركا من «الحل بدولتين» وبالتالي انسحاب السلطة الفلسطينية من الاعتراف بدولة إسرائيل، ومن ثم خلط الحلول بشكل متفجر في القدس، وبين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبين إسرائيل والحلول الدولية المطروحة.
***
يُقال إن فاتحاً غزا أرضاً، وخرج إليه رجال من الأرض الجديدة ومعهم حبل مليء بالعقد، وقالوا له: أن يحل العقد فتكون الأرض الجديدة له، فأخرج سيفه وقطع الحبل ومعه عقده.
قرار ترامب بتفعيل رئاسي لقرارات الكونغرس هو ضربة سيف سياسي لن يحل عقدة القدس إذا لم يحل عقدة «الحل بدولتين»، أي أن تكون لأميركا سفارة في القدس الغربية وأخرى في القدس الشرقية، واعتراف أميركا بالدولة الفلسطينية.