لا نحمل العداء لإيران، قومية أو قوميات، مذهباً أو مذاهب، فالشعب الإيراني جار ويرتبط العرب معهم بمصالح متداخلة وقواسم مشتركة، مثلهم مثل الأتراك والأثيوبيين، شعوب كبيرة تمتد الجغرافيا بيننا وبينهم، ونتقاسم معهم المياه والشواطئ والمبادئ والتراث والحياة.
ومصالح العرب وأمنهم القومي مرتبط بتوفر عناوين العمل المشترك واحترام المصالح، وتبادل المنافع، والترفع عن مناهضة بعضنا بعضاً، كشعوب فرضت الجغرافيا نفسها علينا، وورثنا التاريخ المتبادل بما فيه من صراعات قديمة، وتعايش مشترك، وتداخل في القيم والدين وعوامل صنع الحياة، لا نحن سنتحول لإيرانيين أو أتراك أو أثيوبيين، ولا هم سيكونوا عرباً، بل سنعيش سوياً إلى جانب بعضنا بعضاً كما كنا لآلاف السنين، وكما يجب أن نكون على أساس الندية والتكافؤ وحسن الجوار واحترام المصالح.
ما يجري اليوم في العراق، يتنافى مع هذا الاستخلاص المهم والضروري، إيران اليوم تفرض على العراق سياستها وترغمه على خيارات تتعارض مع التعددية، القومية والدينية والطائفية، التي تحكم العراقيين وتستقر بهم، حيث لم تعد إيران حليفة وداعمة لأحزاب أو شخصيات أو توجهات سياسية بعينها، فالتحالف شيء طبيعي ولو زاد عن حده، ولكن ما تفعله إيران يتجاوز التحالف مع شريحة كبيرة أو صغيرة، أكثرية أو أقلية عراقية، إنها تفرض سياسات وعمليات تطهير وتصفية حسابات مع اتجاهات أو شرائح أو شخصيات على خلفية الحرب العراقية الإيرانية، وأكثر من هذا هي تتدخل في صياغة المشهد السياسي العراقي بما يوفر لها الهيمنة والسيطرة على مؤسسات صنع القرار مستغلة نتائج الاحتلال الأميركي للعراق العام 2003، وإسقاط نظامه السابق وتدمير قدراته وحل الجيش، والعمل على اجتثاث حزب البعث العربي القومي.
لقد تعاونت إيران مع الولايات المتحدة في احتلال العراق وتغيير نظامه، واستفادت من ذلك ووظفت نتائج الاحتلال كي ترث الأميركيين، والنظام السابق، و»داعش»، و»القاعدة»، عبر قوات الحشد الشعبي، والحرس الثوري، والمؤسسات الأمنية، والأحزاب العراقية الموالية لها.
لقد بات قاسم سليماني هو القائد الفعلي ووريث الجنرال الأميركي تومي فرانكس الذي احتل العراق، وها هو مستشاره السياسي الذي تم تعيينه سفيراً لطهران في بغداد يرث السفير الأميركي بول بريمر، ويفرض سيطرته ومصالحه وخياراته على الشعب العراقي، التعددي بخياراته وقومياته وطوائفه، يتحرر العراقيون من جرائم «داعش» و»القاعدة» وأفعالهم العنيفة، فيقعون تحت مظالم الحشد الشعبي وأفعالهم المشينة على خلفية الثأر أو الحرب أو العداء للآخر، قومياً وطائفياً.
لا مصلحة للعرب بالتصادم مع إيران، وبقاء العداء متواصلاً لأنه سيبقى بلا نتيجة إيجابية، لا هم سينتصرون على العرب، ولا العرب سيهزمونهم، بل سيبقى العداء والصراع والاستنزاف عنواناً للحياة، بدلاً من أن يكون التعايش والتعاون واحترام المصالح وتبادل المنافع هو معيار العلاقة وهدفها واستمراريتها.
لا تستطيع إيران الادعاء أنها حامية للشيعة، لأن الشيعة جزء من العرب وقوميتهم في لبنان وسورية والعراق واليمن والخليج عربية، لأنهم عرب، مثلما لا يستطيع العرب أو أنظمتهم أو بعضها الادعاء أنهم يمثلون السنة، فالسنة والشيعة هم مكون واحد من الدين الواحد، فهو الأصل والأقوى، وما محاولات توظيف الادعاء بحماية السنة أو حماية الشيعة سوى توظيف سياسي انتهازي مكشوف، من قبل هذا الطرف أو ذاك، ضد الخصوم السياسيين، أو كتعبير عن تطلعات توسعية إقليمية لن تكون نتائجها خيرة لأي طرف ولأي نظام ولأي توجه أو خيار، سواء أكان عربيا أو إيرانيا.
ما زال يمكن استبدال الهيمنة والتسلط بقبول التعددية والتعايش والشراكة، والحفاظ على مقدرات العرب وإيران معاً، وتوظيف المال من أجل أمن واستقرار العرب والإيرانيين سوية، ومن أجل رفاهية الطرفين وشعوب المنطقة، بدلاً من توظيف التفوق الإيراني لفرض سياسات أو برامج أو خيارات على حساب العرب وأمنهم وإضعافهم وتدمير مكانتهم وبلادهم كما يجري اليوم في العراق وسورية واليمن.
لقد سبق لتركيا أن تواطأت للتآمر على سورية فسهلت تدفق المتطوعين الإسلاميين المتطرفين من أوروبا وآسيا لدخول سورية والعراق، وانخراطهم في صفوف القاعدة و»داعش»، وتمرير السلاح وتوفير العوامل اللوجستية تغذية للحرب المدمرة التي عصفت بسورية والعراق، ولكن هذه السياسة التي قادتها تركيا عادت عليها بالخراب عبر ثلاثة عناوين:
الأول: صعود الخيار الكردي على أرض تركيا كما سبق وحصل للأكراد في العراق وكما يتطلعون في سورية.
والثاني: تدفق اللاجئين الذين أضروا تركيا، وباتوا عبئاً على اقتصادها.
والثالث: العمليات الإرهابية التي ضربت العمق التركي بعد أن أغلقت تركيا أمام تنظيماتهم المتطرفة تسهيلات الانتقال والعمل عبر أراضيها، وها هي تركيا قد صابها الصحو، وغيرت من خياراتها، ولم يعد برنامجها وشعارها وعملها إسقاط نظام بشار الأسد كما كانت ترغب وتفعل، فاستدارت مائة وثمانين درجة سياسية فبات خيارها وتعاونها مع روسيا وإيران.
وإيران لن تكون بعيدة عن نتائج خياراتها المدمرة للعراق، فالإرهاب سينتقل لها كما انتقل لتركيا، والقضية الكردية المتحركة بصمت على أراضيها ووسط شعبها لن تبقى بعيدة الأثر عما يجري في العراق وسورية، فإذا كان الأكراد ستة ملايين في العراق ومليونين في سورية، فهم يقتربون من عشرة ملايين أو أكثر في إيران، ونموذجها في السلطة واحترام القوميات والمذاهب الأخرى ليس نموذجياً، وبالتالي فالأمراض القومية والدينية والطائفية التي عصفت بالعراق وسورية واليمن وبعض بلدان الخليج، سيصل أثرها إلى إيران ليعصف بوحدة إيران، طالما أن قدراتها المالية والاقتصادية مسخرة لمصلحة الحرب والتوسع، وليس لمصلحة توفير أرقى وسائل العيش الكريم للشعب الإيراني الذي يستحق ذلك، ونتمنى له كما نتمناه لأنفسنا كعرب.