متحرراً من حسابات المنصب، قال الرئيس الأميركي المنتهية ولايته باراك أوباما: إن الوضع الحالي للنزاع الفلسطيني / الإسرائيلي غير قابل للاستدامة، وإنه ما لم تكن هناك دولتان، فإن الوضع الحالي سيقود إلى دولة واحدة، يعيش فيها ملايين الفلسطينيين دون مواطنة.
صحيح أن خطاب أوباما الوداعي هو بروتوكولي، لكنه ينطوي على تحذير هو بمثابة الوصية لخلفه الرئيس الجمهوري المنتخب دونالد ترامب، الذي يبدو أنه سيكون واحداً من أسوأ الرؤساء الأميركيين فيما يخص الشأن الفلسطيني، وحتى الإقليمي، وربما رئاسته للولايات المتحدة تكون سبباً في اهتزاز مكانة أميركا باعتبارها الدولة رقم واحد في العالم والتي تقوده منفردة منذ انتهاء الحرب الباردة، أي منذ نحو ربع قرن.
الخطاب الوداعي لباراك أوباما، يضاف إلى قرار مجلس الأمن 2334، الذي أشار إليه الرئيس الذي يغادر اليوم البيت الأبيض _ بعد أن أحدث دخوله إليه ثورة في المساواة بين البيض والسود في الولايات المتحدة، وبعد أن أمضى ثماني سنوات، حاول خلالها التقرب من العالم الإسلامي، بعد الضرر الذي أحدثه الجمهوريون إبان ولايتي جورج بوش الابن، بعد حروبهم في العراق وأفغانستان _ بقوله: إنه، أي القرار الذي لم تعترض عليه واشنطن بالفيتو، كان بمثابة إشارة إلى الطرفين بأن الاستيطان يقطع الطريق على حل الدولتين، كذلك يضاف إلى البيان الختامي لمؤتمر باريس، ثم إلى اجتماع منظمة المؤتمر الإسلامي، كلها تعتبر جملة من التحذيرات الموجهة لترامب، عشية توليه مهام منصبه، تقول له أن يتصرف كرئيس مسؤول للولايات المتحدة، وأن يتجنب ارتكاب الحماقة السياسية، التي يفكر فيها منذ أن كان مرشحاً رئاسياً، وهي نقل السفارة الأميركية من "تل أبيب" للقدس، كذلك الشد على يد إسرائيل علناً فيما يخص المستوطنات بالقول: إنها ليست عقبة في طريق الحل ولا المفاوضات.
إن اجتماع منظمة المؤتمر الإسلامي في نفس اليوم الذي يتم فيه دخول ترامب رسمياً البيت الأبيض، يعتبر أمراً مهماً، وتكون بذلك السلطة الفلسطينية قد بذلت جهداً مهماً، فلم تقف مكتوفة اليدين وهي ترى ترامب يقترب من موقع القرار في واشنطن، محملاً بإرث شعاراته الانتخابية ومواقفه اليمينية المتشددة والاستفزازية، في أكثر من اتجاه، ربما يجد محصلتها أو نقطة تجمعها في الملف الفلسطيني بالذات!
ومنظمة المؤتمر الإسلامي أهم من جامعة الدول العربية، التي بدورها أيضاً من المتوقع أن تتخذ قراراً يجيء في السياق ذاته، فهي تضم نحو 57 دولة ومجموعة إسلامية، وهي مجتمعة لو _ مثلا _ أوصت الدول التي تمثلها بقطع علاقتاها الدبلوماسية مع واشنطن كرد على نقل السفارة، فإن زلزالاً سياسياً سيجتاح واشنطن حينها.
قد يبدو الاقتراح محلقاً في الفضاء، لكنه ليس أمراً مستحيلاً، فواشنطن قد ابتعدت كثيراً عن علاقاتها الدافئة السابقة مع معظم الدول المحورية في العالم الإسلامي، وهي ما زالت على علاقة غير ودية مع إيران، فيما تركيا صارت على مسافة من روسيا تقارب المسافة من أميركا، إن لم تكن أقرب، والسعودية تنظر بعين الريبة خاصة لولاية ترامب الذي هدد بابتزاز دول الخليج العربي بنحو 3 تريليون دولار، وليست مصر أو إندونيسيا وحتى باكستان بحال أفضل في علاقتها مع واشنطن من مثيلاتها الدول الإسلامية التي ذكرناها أعلاه.
أما روسيا فلم تعد تلك الدولة الشيوعية التي تفترق عن العالم الإسلامي أيديولوجيا، ولا تلك الدولة التي تناصب الأنظمة التقليدية العداء، بل هي تظهر كدولة تعلي من شأن المصالح، دولة براغماتية، على أخلاق مسيحية / شرقية، تلتزم بحلفائها وأصدقائها أكثر من الولايات المتحدة.
لذا فإن هناك بديلاً أو نداً كونياً لواشنطن، التي لم تعد تخيف أحدا، وهي بعد الحرب الباردة لم تنجح في إسقاط أي نظام اعتبرته عدواً، لا كوريا الشمالية ولا إيران، ولا حتى فنزويلا، فضلاً عن كوبا، وحتى ابن لادن _ القاعدة وطالبان، ثم صدام / العراق، فإنها حصلت على بدائل أسوأ، فإلى جانب القاعدة هناك جماعات أكثر تطرفاً وعداء لواشنطن، وبديل صدام كان تحول العراق لساحة غير منضبطة، أثرت على سورية، وكل ما يحتاج له هذا الحال، فقط، إلى عود كبريت ليشتعل العالم الإسلامي كله كراهية للولايات المتحدة وإسرائيل، حيث كل الأشتات تتوحد في هذا الهدف!
ليس هناك من عود ثقاب أكثر نجاعة من نقل السفارة الأميركية من "تل أبيب" للقدس، حتى لو ادعى الأميركيون أن سفارتهم ستكون في القدس الغربية، ذلك أن أحداً لا ينسى أن منظمة المؤتمر الإسلامي قد تشكلت أصلاً بعد إحراق المسجد الأقصى، فما بالنا حين تقدم الولايات المتحدة على الاعتراف بضم القدس كلها لإسرائيل، حينها قد تتحول منظمة المؤتمر الإسلامي بالعالم الإسلامي كله من حليف إلى عدو لكل من إسرائيل والولايات المتحدة معاً!
أما دونالد ترامب، الرئيس الأميركي الجديد المنتخب في سياق مريب، ناجم عن الشكوك بالتدخل الروسي الرسمي لصالحه في الانتخابات الرئاسية، إذا ما أقدم فعلاً على نقل سفارة بلاده من "تل أبيب" للقدس، فإنه لن يثبت فقط بأنه سيكون واحداً من أسوأ، بل وأكثر الرؤساء الأميركيين حماقة، فقط، بل إنه سيكون كمن قام في لحظة بفك صاعق التفجير في قنبلة يدوية، تمهيداً لإلقائها، لإحداث حريق، لن يعرف أحد مآله، وإنه بذلك سيلحق ضرراً في علاقة بلاده بالعالم الإسلامي أسوأ بكثير مما فعله جورج بوش الابن بحروبه في العراق وأفغانستان.