رغم أن المجتمع الإسرائيلي بمستوييه الرسمي والشعبي مهيأ تماماً، أمام الحكومة لاتخاذ القرار الحاسم بضم مستوطنة "معاليه أدوميم"، ذلك أن ثلثي الإسرائيليين أيدوا، وفق استطلاع للرأي أجري مؤخراً (67%)، ذلك القرار، إلا أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو تردد في اللحظة الأخيرة، وفي مواجهة ضغوط شريكه في الحكومة، نفتالي بينيت، طالب بتأجيل النقاش حول الأمر في المجلس الوزاري المصغر "الكابينيت"، وذلك بعد أن وصله طلب بهذا من حاشية الرئيس الأميركي الجديد.
في الحقيقة، لن يكون هناك سوى أيام حتى تتضح المعالم العامة للسياسة الأميركية الخارجية الخاصة بالمنطقة، ففي الوقت ذاته أُعلن أن السفير الأميركي الجديد سينقل مقر إقامته إلى القدس والتحديد في حي الطالبية، بعد أن كان سفراء الولايات المتحدة يقيمون عادة في هرتسليا، قرر ديفيد فريدمان السفير الأميركي الجديد نقل مقر إقامته للقدس، وذلك، فيما يبدو، تعويض عن غض نظر واشنطن، عن تعهد رئيسها الجديد، حين كان مرشحاً رئاسياً، بنقل سفارة بلاده من "تل أبيب" للقدس.
سبق وأن قلنا: إن عادة المرشحين الرئاسيين، خاصة منهم من كان مرشحاً من الحزب الذي لم يكن في الحكم، كانت أن يضطر الواحد منهم لرفع مستوى التشدد حتى يثير الاهتمام الإعلامي، ويحقق الفوز، وكانت عادتهم أن يطلقوا شعار نقل السفارة من "تل أبيب" إلى القدس، لكنهم سرعان ما يتنصلون من هذا التعهد، بعد أن يصلوا للبيت الأبيض، خاصة وأن هذا الأمر يندرج ضمن السياسة الخارجية، حيث أن الناخبين أنفسهم ينسون الأمر، لأنه لا يخصهم داخلياً ولا يؤثر على أوضاعهم المعيشية، أما إسرائيل واللوبي اليهودي في أميركا، فقد اعتادوا في السنوات الأخيرة على عدم الإفصاح عن دعم مرشح _ جمهوري أو ديمقراطي بعينه _ ذلك أن إسرائيل نفسها، دائماً ما تختلف داخلياً حول أحد المرشحين، لذا فإن نقل السفارة يخضع لاعتبارات كثيرة إقليمية ودولية، وحيث أن السياسة وحتى الثقافة السياسية الأميركية هي براغماتية جداً، فإن حديث السرايا لا يكون تماماً مثل حديث القرايا، كما يقول المثل، أو إن ما يعلنه المرشح الرئاسي هو غير ما يقوله أو يفعله الرئيس!
لن يشذ دونالد ترامب على الأغلب عن هذه القاعدة، وإن كان سيظل وسيكون رئيساً جمهورياً، قومياً، وقد أطلق في حفل تنصيبه فعلاً شعار "أميركا أولاً"، وكثيراً ما يخشى الإسرائيليون من الرؤساء القوميين الأميركيين، أمثال رونالد ريغان وجورج بوش الأب، لأن هؤلاء يقدمون مصلحة أميركا على مصلحة إسرائيل، حين يظنون أن هناك عدم تطابق بينهما، أو يرون وجود فجوة أو فاصل بينهما.
كذلك يمكن القول: إن ما يواجهه ترامب بالتحديد من معارضة انطلقت منذ ما قبل لحظة تنصيبه رسمياً، كما لم يحدث منذ أيام حرب فيتنام، أي نحو نصف قرن، ومن مظاهرات قدّر عدد المشاركين فيها بنصف مليون شخص، وما أعلنه المثقفون من سلسلة تظاهرات تمتد لمائة يوم، كذلك من تحفظ دولي، خاصة لدى حلفاء أميركا التقليديين، يضع الرجل تحت ضغط لا يستهان به، ما يجعله أقل قدرة على التحرك بسهولة، أو اتخاذ قرارات مثيرة، خاصة في الأيام، الأسابيع والأشهر الأولى من ولايته.
وفي الحقيقة فإن إسرائيل عادة ما تفضل أن تقابل الرئيس الجمهوري الأميركي برئيس حكومة من اليسار أو الوسط، حتى تحدث حالة من التوازن، في حين تفضل رئيس الحكومة اليميني مقابل الرئيس الأميركي الديمقراطي، وربما لم يكن من قبيل الصدفة أن يتم إعلان مشاكل تتعلق بالفساد تواجه بنيامين نتنياهو الآن، أي بعد أن أُعلن فوز ترامب ومن ثم تنصيبه فعلياً رئيساً للولايات المتحدة.
يضاف إلى كل هذا أنه من الطبيعي في السياسة، وبين الحلفاء أن يتم ترتيب الأمور بحيث يتم تمرير ملف إثر ملف أو موقف بعد موقف، فإذا كانت حاشية ترامب أو حتى الرئيس الأميركي شخصياً قد طلب من نتنياهو تأجيل مناقشة القرار الخاص بضم "معاليه أدوميم" لدولة إسرائيل، في الكابينيت الإسرائيلي، فإن موافقة نتنياهو لا بد أن يكون لها ثمن، يقال إن ترامب سيدفعه في الملف الإيراني.
فالجميع يعلم أن نتنياهو كان قد اختلف جداً مع باراك أوباما حول الاتفاق مع إيران بشأن ملفها النووي، وأن ترامب أميل إلى أن يعيد سياسة أوباما أو أن يقوم بعكسها في ملفات أقل إشكالية من ملف القدس الذي لا بد أن يحدث صدى عالمياً ولا يقتصر على الفلسطينيين وحسب.
بقي أن نشير إلى أنه عكس ما شاع، يمكن أن يسم سياسة ترامب على صعيد ملف الصراع الفلسطيني / الإسرائيلي، بالإشارة إلى ما قاله ترامب شخصياً لصهره اليهودي، بعد أن عينه مستشاراً سياسياً في الشرق الأوسط وإسرائيل، من أن صهره إذا لم يحقق السلام في الشرق الأوسط فلن يحققه أي شخص آخر، ما كان سبباً في أن يعود حديث الحل لأروقة الحكومة الإسرائيلية، حيث قال نتنياهو رداً على وزير العلوم أوفير إكونس: إنه يريد دولة فلسطينية ناقصة. ومن ثم إقدام وزير المواصلات يسرائيل كاتس على طرح مبادرة تتضمن ميناء عائماً لغزة وسكة حديد للضفة، في محاولة على ما يبدو للقول: إن إسرائيل لا تغلق الأبواب تماماً، وإن لديها مبادرات ما لتهدئة خواطر الفلسطينيين، وربما في ذلك محاولة لتحديد صياغة موقف أميركي جديد تجاه الملف الفلسطيني / الإسرائيلي وشكل حله!