إذا كانت الأجندة العربية عموماً، منذ مطلع القرن الماضي حتى الآن، حافلة بالأحداث المأساوية والكثير من النكبات، فإن بعض المحطات المضيئة في هذا التاريخ تستحق التوقف عندها. في الواقع "اختلط الحابل بالنابل"، حتى طغى خطاب الشكوى والإحباط واليأس، إلى الدرجة التي لم تعد معها المحطات الإيجابية محل الاهتمام اللازم الذي تستحق، وكأن الأمة اتشحت بالسواد.
منذ سبع سنوات، حين اندلعت ثورة الياسمين في تونس، استبشر الكثيرون خيراً بربيع عربي، ينقل الأمة من هامش التاريخ إلى قلبه، غير أن لون الدم العربي الذي يسيل مدراراً أربك المفكرين والسياسيين، وأدى إلى تراجع حالة التفاؤل، ليحل مكانها الضياع والاختلاف في قراءة مآلات التسونامي الذي يضرب الأمة من أدناها إلى أقصاها.
لم تنته ظاهرة الاضطراب الشديد، ومن غير المحتمل أن يتوقف شلال الدم النازف والدمار المتواصل، وقد تنتقل ارتدادات هذا التسونامي إلى مواقع أخرى من الوطن العربي. لقد تحولت المنطقة العربية إلى ميدان اختبار للأسلحة والنوايا الشريرة وللقوى الدولية والإقليمية، بكل ما ينطوي عليه ذلك من تضارب عنيف للمصالح والأهداف، وحتى يدفع العرب ثمن التحولات الجارية في النظام العالمي الذي يتشكل.
لم يكن العرب حكاماً ومحكومين قد أدركوا مبكراً أنهم يتعرضون من بين أهداف أخرى إلى عملية تقسيم يعتبرها اليوم الكثيرون على أنها "سايكس بيكو" القرن الحادي والعشرين، الأمر لم يعد وهمياً ولا هو محل جدل واختلاف بشأن خلفيات التدخلات الإقليمية والدولية التي تعبث بالدولة الوطنية العربية.
المخططات التقسيمية لا تزال موجودة والتهديد قائم، غير أن هذا المخطط تلقى ضربةً كبيرةً قوية وحاسمة إلى حد كبير، حين اندلعت الثورة المصرية في الخامس والعشرين من يناير 2011، وتجددت في الثلاثين من حزيران 2013.
لا بد أن ينتبه العرب، كل العرب وليس المصريين فقط، إلى أن ما حققه الشعب المصري يشكل حدثاً تاريخياً بامتياز، ذلك أن مخططات التقسيم توقفت عند الحلقة المركزية الأهم، التي كان انهيارها لا سمح الله سيؤدي إلى انهيار بقية الحلقات، قويها وضعيفها.
وإذا كان الشعب المصري الذي خرج بعشرات الملايين في الثلاثين من حزيران 2013 هو البطل الحقيقي، فإن الجيش المصري ومؤسسات الدولة العميقة والقوى المخلصة هي التي توجت بطولة الشعب المصري، وحولتها إلى إنجاز ليس لمصر وحدها وإنما للأمة العربية.
في وقت سابق، كتبت مقالات تقرن بين الرئيس عبد الفتاح السياسي والرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ولم يكن ذلك تزلفاً أو تجسيداً لحالة عاطفية أو لتطرف في التفاؤل. لا أتحدث عن إنجازات أو إخفاقات أو أي ملاحظات أو انتقادات إيجابية أو سلبية لمرحلة الرئيس السيسي، لأنني أعتبر أن حماية ووحدة مصر هي وحدها إنجاز تاريخي كبير يستحق كل الاحترام والفخر والاحتفال من كل عربي حريص على وحدة مجتمعه ودولته.
مررت بمصر خلال الفترة القريبة الماضية، وتصادف ذلك قبل تاريخ الحادي عشر من تشرين الأول، الذي حددته قوى معادية للنظام يوماً لخروج الناس إلى الشوارع، لكن ذلك اليوم مر كيوم عادي، مع ملاحظة استنفار القوى الأمنية والشرطية تحسباً.
كنت أسأل سائقي السيارات أثناء تجوالي، ولاحظت أن هناك حالةً من التبرم إزاء الوضع القائم، لكنهم سريعاً ما كانوا يتراجعون حين كنت أبادلهم الحجة من موقع القناعة الراسخة، أولاً بعظمة الإنجاز، وثانياً لأن المؤامرات لم تتوقف بعد، وثالثاً لأن ثلاث سنوات من الحكم برئاسة الرئيس عبد الفتاح السياسي ليست كافية لتصحيح اختلالات ومصائب عقود طويلة سابقة.
بالتأكيد، هناك ملاحظات ونواقص، لكن الأمور إجمالاً تسير في الوجهة الصحيحة التي ستحوّل خريف مصر إلى ربيع مزهر. في هذا السياق، تخطئ بحق مصر وبحق نفسها كل دولة وكل رئيس أو ملك يختار موقع التعارض أو الخلاف أو العداوة مع مصر ونظام حكمها، فثمة ما هو أهم من التفاصيل الصغيرة والاختلافات الثانوية.
إذا كان للأمة العربية من أمل في أن تتجاوز النكبات الظاهرة والكامنة فإن الرهان في ذلك معقود على مصر. مصر هي الملاذ الموضوعي والحقيقي لكل دولة وكل مسؤول يحرص على إفشال مخططات التقسيم للدولة الوطنية.
وفي ظل التضارب الشديد في مصالح الدول الكثيرة البعيدة والقريبة التي تتصارع على المنطقة دون مراعاة لمصالح شعوبها، فإن مصر هي الوجهة وهي القادرة وهي الخيار الإجباري. إلى أين يذهب بعض العرب الباحثين عن حماية بلدانهم وأنظمتهم من الحريق ومن التفكك والانهيار، سواء كان مصدر الخطر من الشرق أو الغرب، أو من إسرائيل التي تنتظر أن يرتمي بعض هؤلاء في أحضانها.
إسرائيل لن تحمي أحداً، وإنما تسعى وراء مخططاتها وتطلعاتها التوسعية، أم إن علينا تذكير من نسي أو تخونه الذاكرة أو يتناسى أن شعار الحركة الصهيونية الذي يتجسد في علم إسرائيل هو من الفرات إلى النيل أرضك يا إسرائيل؟
وبصراحة، فإن الحكومة الإسرائيلية المتطرفة والعنصرية تتطلع إلى أبعد من ذلك، فمخططاتها وأحلامها تصل إلى باب المندب وإلى مضيق هرمز وما بينهما. إذا كان خيار العرب الباحثين عن حماية الدولة القومية والاستقواء على الآخرين الطامعين بمصر، فإن عليهم أن يقدموا الدعم اللازم كأولوية وكأنهم يدعمون بلدانهم ويسخرون إمكانياتهم لحماية وحدة مجتمعاتهم وأراضيهم وثرواتهم.
لكن حتى يتحول الخريف إلى ربيع عربي ثمة حاجة أكيدة للتقدم نحو مبادرات ذاتية لإصلاح أنظمة الحكم وأحوال الناس، بما لا يترك مجالاً لتوسيع دائرة الإرهاب والتدمير الذاتي. ما زلت أقول: إن ملك المغرب، قد امتلك شجاعة المبادرة حين أقدم على تعديل الدستور وأعاد توزيع الصلاحيات حتى يدرأ عن بلاده نيران الفتنة.