عودوا إلى القاهرة فالعود أحمد

طلال عوكل
حجم الخط

بعد جولات كثيرة في عواصم كثيرة دولية وإقليمية وعربية، فإن الاستنتاج الوحيد، الذي تقدمه الفصائل للمواطن الفلسطيني، هو أن هذه الفصائل لا تزال تملك قدرةً عجيبةً على تصدير المزيد من خيبات الأمل، ومفاقمة الأزمات التي تستنزف قدرة الناس على الصمود والصبر.
إذا كانت استعادة الوحدة حلماً فقد تباعدت المسافات بين الحلم وإمكانية تحقيقه، تماماً مثلما هو الحال بالنسبة للأحلام الوطنية كبيرها ومؤجلها وصغيرها ومعجلها. بعد أشهر قليلة ستحل الذكرى العاشرة لوقوع الانقسام. عقد كامل من الزمن مليء بالأزمات والعذابات والصراع العبثي، ومليء بالإحباطات، وخيبات الأمل.
الزمن لا يمضي دون أثمان يقدمها الشعب، وتقدمها القوى الحية، وتستنزف القضية الأساس والعنصر الأساس في معادلة الصراع من أجل التحرر وهو الإنسان. بعد لقاءات سويسرا التي تضاف إلى عشرات اللقاءات الحوارية، وكان غرضها تقريب وجهات النظر، وتحقيق شيء من التوافق بشأن قضايا الخلاف والعقبات التي تحول دون تطبيق اتفاقات المصالحة، التقى الفلسطينيون في بيروت على طاولة اللجنة التحضيرية للمجلس الوطني الفلسطيني.
الإعلانات والتصريحات التي صدرت والبيان الختامي، كلها أنعشت الآمال وحفزت المشاعر والعقول المنتظرة. وكذلك جاءت التصريحات خلال لقاءات الفصائل في موسكو، التي قيل إنها فقط تستهدف الحوار، وتوضيح وجهات النظر المتباينة والمتفقة، وتحفيز روسيا على تطوير دورها السياسي، وأيضاً دورها في تحقيق الوحدة الوطنية.
من موسكو جاءت الإعلانات تتحدث عن اتفاق على هدف تحقيق الدولة على الأراضي المحتلة عام 1967 بعاصمتها القدس، وعلى أن الفصائل ستلتقي الرئيس محمود عباس لكي تطلب منه تشكيل حكومة الوحدة الوطنية.
على أن تلك الأجواء والتصريحات الإيجابية التي خرجت من عديد القيادات في موسكو، انقلبت إلى تصريحات سلبية بددت كل الآمال التي أوحت وكأن رحلة الانقسام قد عرفت طريق العودة.
البعض نفى أن تكون الفصائل اتفقت على أن تعمل حكومة الوحدة الوطنية استناداً إلى برنامج منظمة التحرير الفلسطينية، وبعض آخر لا يرى إمكانية تحقيق خطوات أخرى على طريق تنفيذ اتفاقيات المصالحة، قبل تشكيل حكومة وحدة وطنية عليها أن تنجز ملف الانتخابات والمحصلة في كل الأحوال المزيد من الخلافات وليس بقاء الحال على حاله.
من جديد نشب خلاف على موضوع إجراء الانتخابات المحلية في الضفة وغزة، خاصةً بعد التعديلات القانونية التي ترى "حماس" أنها فرضت دون توافق وطني، هذا بالإضافة إلى الخلاف الذي لا يتوقف التعبير عنه بشأن الجهة التي تتحمل المسؤولية عن تفاقم أزمة التيار الكهربائي في غزة، وعديد الأزمات الأخرى.
في هذه الأثناء، يمضي كل طرف في سبيله وفق رؤيته الخاصة وسياساته وتكتيكاته وعلاقاته بالمحيط الأوسع. يبدو أن "حماس" تحقق تقدماً إيجابياً في العلاقة مع القاهرة، لكن هذا التقدم لم يصل بعد إلى مستوى تبييض قضايا الخلاف، الأمر الذي قد يؤدي إلى تحسين حياة الناس في قطاع غزة.
الناس في غزة ينتظرون معالجة بعض قضاياهم الحياتية أكثر مما أنهم ينتظرون المصالحة واستعادة الوحدة. على الخط الآخر، فإن العلاقات بين السلطة ومصر في أحسن أحوالها تتأثر بالعواصف الثلجية التي تسود الأحوال الجوية، بحيث لا يمكن لأحد أن يغطي هذه البرودة في العلاقات من خلال التصريحات التي تؤكد أن العلاقة جيدة.
في الواقع، فإن العلاقة مرتبكة وسلبية رغم استمرارها بطبيعة الحال، ذلك أن مصر لا يمكن أن تحيد عن سياسة الاعتراف والتعاطي مع السلطة الشرعية. الأسباب بطبيعة الحال معروفة وهي مرهونة بأن يغير أحد الطرفين موقفه من القضايا التي تسببت في الخلاف.
لقد أدركت "حماس" أهمية العلاقة مع مصر، وهي كانت تدرك ذلك كل الوقت، لكنها لم تكن قادرة على دفع الثمن الذي تطلبه مصر من أجل تحسين العلاقة، أما اليوم وفي ضوء محدودية الخيارات فإنها أكثر استعداداً للاستجابة بالقدر الذي يحرك العلاقات إلى مستويات مقبولة.
هذه المحاولات لتحسين العلاقة بين "حماس" ومصر، لا شك في أنها تثير لدى "فتح" والسلطة بعض القلق، لكن لا يبدو حتى الآن أنهما مستعدتان لدفع ثمن عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الموقف السلبي للحركة من مبادرة الرباعية الدولية، التي طالبت بمصالحات فتحاوية ثم بين "فتح" و"حماس"، بالإضافة إلى خطوات سياسية أخرى.
هذا هو واقع الحال الذي قد يستمر لبعض الوقت، إلى أن تقتنع كل أطراف الانقسام الفلسطيني، بأن القاهرة هي الخيار الإجباري الوحيد المتاح أمام الفلسطينيين لإعادة ترتيب أوضاعهم الداخلية. بإمكان الأطراف الفلسطينية أن تذهب إلى كل مكان، وإلى كل عاصمة، لكنها ستعود إلى القاهرة.
هكذا كان الحال دائماً وهكذا هو اليوم وغداً، وبالتالي لا فائدة من استنزاف الوقت والجهد بحثاً عن خيارات أخرى. سيكتشف الفلسطينيون أن التأخير في إصلاح وتحسين العلاقة مع مصر، مكلف بالنسبة لهم ولقضيتهم، خاصةً وأن إسرائيل والولايات المتحدة تغلقان الأبواب أمام أي إمكانية للمراهنة على عملية سلام مثمرة وأن وحدتهم هي المكسب والإنجاز الذي يمكن تحقيقه.
إذا لم يكن الفلسطينيون قادرين على استقراء مقبل السياسات الأميركية، فإن بالإمكان الوقوف على طبيعة هذه السياسات من خلال متابعة السياسة الإسرائيلية. إسرائيل تعلن تباعاً المزيد من التوسع الاستيطاني في الضفة والقدس، وتتجه نحو إصدار تشريع في الكنيست لشرعنة الاستيطان.
لم يصدر عن الإدارة الأميركية الجديدة أي موقف يستنكر أو يدين أو حتى ينتقد هذه الإعلانات المتواترة، فلقد كان ترامب صرح بأن الاستيطان لا يشكل عقبةً أمام عملية السلام. إذا كان الأمر كذلك فإن الطريق إلى إعادة الحيوية لعملية السلام، قد أصبحت مغلقة تماماً ولا سبيل لعودة السياسة الانتظارية والمترددة.
لا بد من التحرك لتصعيد المقاومة الشعبية، والتقدم نحو المؤسسات الدولية، بالملفات التي جرى تأجيل طرحها، وانطلاقاً من قراءة حقيقية عميقة لمقبل السياسات الأميركية يصعد بنيامين نتنياهو من سياساته وإجراءاته المتطرفة التي لا تبقي أي إمكانية للمراهنة على إمكانية إحياء المفاوضات.
نتنياهو يشترط اعتراف الفلسطينيين بيهودية الدولة، وبحقها في السيطرة الأمنية على كل الأراضي المحتلة بين النهر والبحر. هل بعد كل هذا يمكن المراهنة على جهد أميركي مختلف يؤدي إلى إنعاش الآمال بإمكانية تحقيق رؤية الدولتين من خلال المفاوضات؟
إن مثل هذه المراهنة التي تقضي باستمرار سياسة الانتظار والتردد، واستنزاف الوقت، من شأنها أن تفاقم الأزمات الوطنية التي يعاني منها الفلسطينيون، وأن تعمق قضايا الخلاف والانقسام بين بعضهم البعض، لذلك لا مناص من العودة السريعة للكل الفلسطيني إلى القاهرة، بعزيمة وإرادة من يقرر تغيير الواقع الفلسطيني والفلسطيني- العربي.