يتمتع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بدهاء كبير ومهارة فائقة في المناورة والصمود، بدليل أنه بقي الزعيم الوحيد في إسرائيل بعد أن قضى على كل خصومه ومنافسيه داخل حزبه «الليكود» وفي الأحزاب المعارضة، وهو لا يزال قائد اليمين بلا منازع وكل محاولات رئيس حزب (البيت اليهودي) نفتالي بينيت أن يبرز كمن يقود اليمين ويحدد سياسة الحكومة يتصدى له نتنياهو ويتبنى مواقف أكثر تشدداً، حتى أنه أصبح يضم إليه وزير الأمن أفيغدور ليبرمان ويحاول ألا ينسب بينيت لنفسه أي انجاز، واختار نتنياهو الإعلان عن مشروع بناء 2500 وحدة استيطانية في جبل أبو غنيم بمشاركة ليبرمان حتى لا ينسب بينيت لنفسه هذا «الانجاز». غير أن نجاح نتنياهو بالمراوغة ليس مضموناً دائماً والقضايا الجنائية التي يتم التحقيق معه بشأنها تحد بصورة كبيرة قدرته على التملص على الرغم من محاولاته المستميتة.
العارفون بخفايا سياسة نتنياهو في إسرائيل يقدرون أنه سيسعى لحرف الأنظار عن ملف التحقيقات التي تجريها الشرطة معه في قضايا الفساد المنسوبة إليه بإثارة موضوعات تحظى باهتمام الرأي العام، عدا طبعاً الادعاء بأن وسائل الإعلام تطارده وتستهدفه بشكل خاص بادعاء أنها يسارية و»بلشفية». ومن ضمن القضايا التي يشغل فيها نتنياهو الرأي العام قضية تشريع الاستيطان على خلفية موضوع مستوطنة «عمونا» والاستيلاء على الأراضي الفلسطينية التي يملكها مواطنون حكمت لصالحهم المحكمة العليا الإسرائيلية، وما يسمى قانون «التسوية» الذي يجيز استملاك أراض فلسطينية خاصة وتعويض أصحاب الأراضي بالمال أو بأرض فلسطينية بديلة.
غير أن اللعب بموضوع القانون الجديد هو سلاح ذو حدين، فمن جهة هو صحيح يشغل الرأي العام حيث يؤيده المستوطنون، ومؤيدوهم مستعدون لإثارة الفوضى في سبيل إقراره لأنه يطلق أيديهم في الاستيطان بدون قيود أو حدود وفي إطاره يضمنون عدم إخلاء أي مستوطنة، وترفضه جهات في المعارضة وترى فيه ضرراً على مصالح إسرائيل على المستوى الدولي، وهناك من ينظر إليه كخطر على التسوية السياسية وحل الدولتين وقد انضم إلى المعارضين المستشار القضائي للحكومة وأبلغ نتنياهو بأنه لا يستطيع تمثيل الحكومة والدفاع عنه في المحكمة الإسرائيلية العليا، ومن جهة أخرى أصبح نتنياهو كالذي بلع سكيناً لا يستطيع أن يخرجه أو يدخله، فهو يواجه معارضة دولية كبيرة في مسألة سن القانون ولا يقدر على تسويقه بأي حال، والذي يشكل مادة جيدة للفلسطينيين للذهاب إلى المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة إسرائيل على جرائم خرق القانون الدولي. وموقف المستشار القضائي للحكومة واضح بهذا الشأن بأن القانون الاستيطاني الجديد سيسقط في أي اختبار قانوني محلياً ودولياً. وإذا تراجع نتنياهو سيواجه مشكلة حقيقية مع المستوطنين وسيقدم خدمة لبينت لاستعادة زمام المبادرة كقائد اليمين المخلص والمبدئي.
وقد اضطر نتنياهو، الذي حاول دفع سن قانون «التسوية» بخلاف لموقف مستشار الحكومة، إلى تأجيل التصويت عليه في الكنيست مرتين خلال يومين من الاثنين الماضي إلى يوم أمس (الثلاثاء) ثم إلى يوم الاثنين القادم، وليس واضحاً ماذا سيكون مصير القانون الأسبوع القادم. وفي كل حال سيكون نتنياهو في مشكلة جدية على الوجهين. وهناك من يرى أن نتنياهو لن يعجز عن إيجاد قضايا لشغل الرأي العام قد يكون التصعيد وحتى الحرب إحداها. وقد لا ينفعه أي شيء إذا ما قدمت له لائحة اتهام وهذا هو المرجح خلال الشهور القادمة وعندها سيضطر لمغادرة الحياة السياسية بفضيحة.
في كل الأحوال، السياسة التي ينتهجها نتنياهو والتي تهدف إلى القضاء تماماً على فكرة التسوية السياسية القائمة على حل الدولتين على أساس حدود العام 1967 وحل قضية اللاجئين الفلسطينيين على أساس الشرعية الدولية تمثل فرصة سانحة لنا لوضع النقاط على الحروف في كل ما يتعلق بالاحتلال الإسرائيلي للمناطق الفلسطينية المحددة بكامل الضفة الغربية ومن ضمنها القدس الشرقية وقطاع غزة. فقرار مجلس الأمن الأخير الخاص بالقضية الفلسطينية رقم 2334 أزال أي شكل من أشكال الغموض أو عدم الوضوح فيما يتعلق بالتفريق بين الأراضي المحتلة ودولة إسرائيل، وثبت الخط الأخضر كحد فاصل بين إسرائيل ودولة فلسطين. وبالتالي أصبح الذهاب إلى المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة إسرائيل على جرائمها أكثر سهولة ويسراً في ظل المرجعيات القانونية الدولية. وهنا لا ينبغي استثناء قرار التقسيم 181 من العام 1947 الذي اعترفت به إسرائيل والذي تخرقه يومياً بوجودها في المناطق المحتلة وبتنكرها لحقوق اللاجئين الفلسطينيين.
نحن بحاجة لاعتماد إستراتيجية نضالية تقوم على مواصلة التحرك على الساحة الدولية لتكريس الاعتراف بدولة فلسطين وتثبيتها سياسياً وقانونياً في إطار حدود 1967، وفي هذا السياق لا ينبغي العودة للتفاوض على القضايا التي جرى التفاوض حولها بدون جدوى في الماضي، بل نطالب بتطبيق القرارات الدولية الخاصة بالصراع ومن ضمنها قرارات 242 و338 و1515 و2334 والقرار 194 كمرجعية لحل قضية اللاجئين. وميدانياً خلق حقائق على الأرض وخاصة في المناطق المصنفة (ج) وفي القدس الشرقية بمساعدة عربية ودولية.
وفي إطار الحديث عن الميدان لا بد من انتهاج إستراتيجية وطنية للمقاومة السلمية التي تحيي القضية الوطنية وتساهم في إشراك كل المواطنين فيها لعزل إسرائيل ومحاصرتها دولياً، وتثبيت الحقوق الفلسطينية من قبيل بناء مشاريع قرى وتجمعات فلسطينية مثل كرامة وباب الشمس. والأجيال الشابة قادرة على خلق أشكال إبداعية خلاقة إذا ما أطلق لهم العنان وتوفرت لهم سبل الدعم، بعيداً عن تعريض حياتهم للخطر وانتهاج أشكال عنيفة من المقاومة قد لا تكون مجدية أو مقبولة دولياً في هذه المرحلة.