نظراً لمكانة القدس في قلوب المسلمين دينيا، ومكانتها في حسابات السياسيين إقليميا ودولياً، فقد صار عنوان عهد ترامب، نقل السفارة من تل أبيب الى القدس.
ومع ظهور دلائل غير دامغة حتى الان على أن ترامب أقلع عن فكرة النقل ولو بالتأجيل، إلا ان القلق ما زال يعتمل في نفوس المسلمين والسياسيين، من أن رجل المفاجآت قد يفعلها.
وإذا ما تناولنا هذا الأمر في سياق سياسي موضوعي، فإننا لا نجده الخطر الوحيد الذي أتى به ترامب الى قضيتنا وحقوقنا، فهنالك ما هو أخطر من هذا بكثير ... فالرجل حتى الان لم يقل ولو كلمة واحدة يرفع فيها العتب منتقدا ولو بأرق العبارات القرارات الاستيطانية الأخيرة، التي لم تسكت عنها الإدارات السابقة، ولم تمنحها شرعية الصمت والتغاضي، إلا ان الرئيس ترامب فعلها مكتفيا بالقول سأبحث هذا الامر حين التقي نتنياهو، وهذا معناه الموضوعي أنه منح نتنياهو فترة سماح تكفي لأن يتخذ قرارات نوعية واشد خطورة من كل ما اتخذ، وما يجري بحثه الان في ظل فترة سماح ترامب، هو شرعنة البؤر الاستيطانية العشوائية، وهذا ما لم يحدث سابقاً، رغم كل التنكيل الاستيطاني بالأرض الفلسطينية في كل عهود الحكومات السابقة والإدارات الامريكية، إضافة الى هذا فهنالك تهيئة ترقى الى مرتبة مقدمة القرارات، لضم معاليه أدوميم فيما يوصف بالـ «E1 » التي تعني واقعياً وسياسياً شرعنة قسم الضفة الغربية الى شطرين، وتوسيع ما تسميه إسرائيل بالقدس الكبرى، لتشمل أراضٍ لم تكن مشمولة من قبل.
ربما سيأتي وقت يضطر فيه ترامب أو بعض معاونيه لقول كلمات في هذا الشأن، لحفظ ماء الوجه أمام العالم المعترض بشدة على الاستيطان، وتغطية ترامب له ان لم أقل دعمه، الا ان ما يمكن ان يقال في هذه الحالة سيظل مجرد كلام لا تأثير له في الواقع، فقد حصل الإسرائيليون مسبقاً على مبتغاهم، ولا يهمهم بعد اقامة البناء ان يقال من أي جهة كانت "هذا يعيق حل الدولتين!!".
الأخطر واللاأخلاقي في حالة ترامب، وحميمية علاقته بنتنياهو، أن رئيس أكبر دولة في العالم يسعى لتوفير مصداقية لوعوده من سرقة الجيب الفلسطينية، هذا الجيب الذي أفرغه التحالف الأمريكي الإسرائيلي على مدى عقود من المال القليل الذي يحتفظ به، فقد وقع الفلسطينيون في زمن هذا التحالف المتنامي، تحت طائلة تظاهر أمريكا بالعجز عن فعل أي شيء يعيق النهب الإسرائيلي لممتلكات الفلسطينيين وحقوقهم، حيث استعاضت أمريكا عن ادعاء العجز بمجرد كلمات تقال لا تحمل ادانة للاستيطان، بقدر ما تحمل عتباً رقيقاً يراد به تصدير بضاعة أخلاقية للعالم ولحلفائهم العرب بالذات.
لقد ابتهجنا حد الاحتفال بامتناع أمريكا عن التصويت في مجلس الامن، حتى اوشك بعضنا على ان يعتبر هذا الامتناع واحداً من أهم المزايا الاستراتيجية التي منحها الامريكيون للفلسطينيين، واحتفلنا مطولاً وبصوت عالٍ بخطاب وزير الخارجية كيري، حتى اوشك بعضنا على اقتراحه برنامجا سياسياً لنا وللعالم في شأن القضية الفلسطينية، دون ان ندقق ليس فقط فيما بين السطور، وانما في السطور ذاتها، اذ كان يكفينا انتقاد إسرائيل التي لا تشبع للخطاب كي نتبناه ونحتفي به، فإسرائيل تنتقد لأنها تريد بهذا الانتقاد ان تحصل على المزيد، اما نحن فنحتفل من منطلق آخر سقفه..."احسن من بلاش".
والان.. والقلق يستبد بنا من توجهات ترامب ومؤشرات سياساته، ويستبد بنا اكثر من الاستغلال الإسرائيلي لفترة ترامب، والفترة التي تؤمنها لقرارات التطرف الإسرائيلي، ينهض سؤال في وجهنا جميعا... ماذا يتعين علينا ان نفعل في مواجهة هذه البلوة ومضاعفاتها؟ إن ذهبنا الى مجلس الامن فسيكون ترامب لنا واقفا على الباب، مانعا من الدخول ومانحا الفيتو بصورة تلقائية، وان ذهبنا الى الجمعية العامة التي هي مرتعنا الخصيب في كل الازمان والظروف، فسنجده أمامنا مع امين عام لا تبشر بداياته بالخير، وقد يعاقب بخفض الدعم المالي للمنظمة الدولية، اذا ما ذهبت في اتجاه لا يُرضي إسرائيل، وان ذهبنا الى أي مكان آخر، فيد أمريكا طويلة وعقوباتها المالية فعّالة.
لاشك انه رغم كل هذا لا مناص من مواصلة طرق الأبواب الدولية بلا هوادة، ولكن في الوقت ذاته، صار الزاميا لنا وعلينا ان نعظم رصيدنا عند شعبنا وفي بلادنا، ويبدو لي ان هذا هو الخندق الأول والأخير الذي نلوذ به في مواجهة اعتى التحديات، وحتى الان لا تقدم يذكر في هذا الاتجاه.