لا تقيم طهران علاقات دبلوماسية مع الولايات المتحدة منذ «الثورة الإسلامية» واحتلال السفارة الأميركية في العاصمة الإيرانية، إلاّ أن وصول ترامب إلى البيت الأبيض مهد الطريق لتصعيد يغلب عليه الانتقام من حيل الشكل، وحسابات سياسية من حيث الجوهر والمضمون، الرئيس الإيراني حسن روحاني تحدث بحذر أمام الحشود الإيرانية المحتفلة بالذكرى الثانية والثلاثين للثورة الإسلامية رداً على تصريحات ترامب وطاقمه التهديدية قائلاً: يجب مخاطبة الشعب الإيراني باحترام، الشعب الإيراني سيجعل من يستخدم لغة التهديد يندم على ذلك» ورغم هذا القول الحذر، الا ان ترامب رد بعنجهية لافتة، موجها كلامه لروحاني: من الأفضل أن تبقى أكثر حذراً! واثر هذا القول، ضجت صالات البيت الأبيض بتصريحات من طاقم الرئيس، وزير دفاعه جيمس ماتيس،: إيران هي أكبر دولة راعية للارهاب، مستشار الأمن القومي مايكل فلين: «إيران تعرض امن المواطنين الأميركيين للخطر»، انسجاماً مع تصريح للرئيس سبق أقوال روحاني يشير فيه إلى أن ايران الدولة الارهابية رقم واحد، وهي تتعقب طائراتنا وتطوق سفننا بزوارقها الصغيرة، متجاهلاً أن هذه السفن وحاملات الطائرات تستوطن المياه الدولية في الخليج العربي على تخوم السواحل الإيرانية، وليست تلك الزوارق الصغيرة، تحيط بحاملات طائرات أميركية على مقربة من سواحل الولايات المتحدة.
هذا النزق الأميركي المتغطرس، يعود من حيث الجوهر والمضمون إلى رفض إدارة ترامب، حتى قبل أن تتولى شؤون البيت الأبيض، للاتفاق النووي الذي تم توقيعه من قبل الدول الكبرى الست مع إيران، انسجاماً مع ما تراه هذه الإدارة «مصالح أميركية» مهددة من قبل هذا الاتفاق، الخطوة الأولى في هذا السياق، فرض عقوبات أميركية جديدة على إيران بعد ان قامت الأخيرة بتجربة صاروخية لا تتعارض مع نصوص الاتفاق المذكور، باعتراف كل الدول الخمس الأخرى، هنا لا يجب تجاهل أحد أهم دوافع هذا الموقف من ايران، وهو الدافع الاسرائيلي الذي كان وراء موقف ادارة نتنياهو من هذا الاتفاق وأحد اهم عناصر الخلاف مع ادارة اوباما، من هنا يمكن فهم قول ترامب، بأن إدارته لا تتعامل بهدوء مع هذا الملف كما فعلت إدارة اوباما.
سبق وأن أشرت في مقال سابق، الى ان احد اهم الملفات التي سيتناولها اجتماع ترامب ـ نتنياهو في منتصف الشهر الجاري في واشنطن، مسألة دعم التقارب العربي ـ السني، أي الخليجي مع إسرائيل، كأولوية تتصدر ملفات البحث وتتجاوز مسألة نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وملف الاستيطان، اثر التوصل على الأرجح إلى مثل هذه المسألة، تابعنا «استدراكات» إدارة ترامب فيما يتعلق بالموقف من دول الخليج العربي، فقد توقفت عن التلميح أو التصريح ضد هذه الدول كما كان الأمر عليه خلال الحملة الانتخابية وبداية تسلم ترامب مقاليد البيت الأبيض، بل لاحظنا غزلاً متبادلاً بين الجانبين، إذن تم طي الملف الانتقامي من دول الخليج العربي التي كانت مطالبة بدفع الجزية بدل حمايتها من قبل الولايات المتحدة، ليس إرضاءً لهذه الدول ولكن لأن لإسرائيل مصلحة عليا في الإبقاء على علاقات دافئة ومتطورة مع هذه الدول، ورغبتها في الانتقال من العلاقات السرية إلى علاقات علنية سافرة، والمبرر للوصول إلى مثل هذه الحالة يتوفر بتوحيد كل الجهود أمام الخطر الداهم، إيران.
الاستدراك الأميركي تجاه دول الخليج على خلفية الملف الإيراني، لم يكن فقط بسبب الموقف الإسرائيلي من إيران، بل لحسابات أميركية صرفة، تتوافق مع المصالح الإسرائيلية بهذا الشأن، وهذا ما تسبب باستدراك آخر، يتعلق هذه المرة برؤية إدارة ترامب للدور الروسي في المنطقة، إذ بات من المعروف أن هذه الإدارة، وقبل تسلمها مهامها في البيت الأبيض، أدارت علاقات غزل متبادل مع الرئيس بوتين، وظهرت وكأن إدارة ترامب، سترعى هذا الدور المتطور والمشهود لروسيا في ملفات الشرق الأوسط انطلاقاً من دورها في الساحة السورية، مع الوقت تبين لإدارة ترامب، أن هذا الدور المتصاعد والمتنامي إنما يأتي على حساب الدور الأميركي بالتحديد، إذن قد تتحالف أميركا مع روسيا إزاء بعض الملفات، الا أن صراعاً آخر سيتوفر على ملفات أخرى في نفس الساحة، وانطلاقاً من الموقف من إيران، فإن التحالف الروسي ـ التركي ـ الإيراني من شأنه أن يعيق الدور الأميركي، وفي هذا السياق، فإن تفكيك التحالف الروسي ـ الإيراني سيكون على رأس اهتمامات إدارة ترامب، والتهديد بالحرب على إيران يخدم هذا السياق!
إلاّ أن العلاقات الروسية ـ الإيرانية، لا يحدها فقط تعاونهما المشترك على الساحة السورية، إذ هناك علاقات أمنية وتسليحية واقتصادية بالغة الأهمية وسابقة على تعاونهما في مجال مكافحة الارهاب على الساحة السورية، موقف روسيا المتضامن مع طهران على ملف البرنامج النووي، كان سابقاً على تعاونهما في سورية، لذلك فإن تفكيك هذا التحالف القوي لن يكون بالسهولة التي يتصورها ترامب وإدارته.
التوغل الأميركي في شؤون الشرق الأوسط، يتعارض مع نوايا إدارة ترامب وتوجهها للانفكاك من مخلفات الإدارات السابقة في هذه المنطقة من العالم، لكن علينا أن ننتظر وقتاً آخر حتى تستقر هذه الإدارة التي يلاحظ البعض أنها بدأت ولايتها بقرارات متسرعة، بينما ترى أنها بدأت ولايتها باستدراكات متلاحقة!!