مجتمع استهلاكي

د.عاطف أبو سيف
حجم الخط

لا يحتاج المرء للكثير من الفطنة حتى يدرك أن مجتمعنا مجتمع استهلاكي بامتياز، فأنت إذا راقبت رفوف "السوبرماركتات" والمحال التجارية بالكاد ستقع عيناك على أي منتج محلي الصنع.
فكل البضائع من أقلها بساطة إلى أكثرها تعقيداً تحمل تواقيع وأختام دول أجنبية.
وتكاد عبارة "صنع محلي" أو"فخر الصناعة الوطنية" تختفي أمام سيل البضائع ذات المصادر الخارجية.
هل أن المجتمع بأفراده يفضلون البضاعة الخارجية؟ أم أن الأمر يتعلق بتوجه التجار للاستيراد سعياً وراء الكسب؟ أم أن تراجع الصناعة المحلية نتيجة الحصار والحروب المتتالية واستهداف وتدمير المصانع والمنشآت، هو السبب الحقيقي وراء ذلك.
بالطبع هناك مئات الأسباب التي يمكن أن تأتي على بالنا في هذا السياق، لكنها كلها تقود إلى نتيجة واحدة ووحيدة ومؤلمة في ذات الآن: أن المنتج الوطني بات في خبر كان.
ربما يكون التوجه لمقاومة الحصار عبر إدخال كل شيء ممكن وبأي طريقة ممكنة (الأنفاق مثلاً) هو ما قاد إلى غزو البضائع الأجنبية للسوق المحلي، وهو توجه يمكن أن يكون له ما يبرره، حيث إن حالة الخنق والتضييق تدفع المرء للبحث عن أي فسحة أو فتحة في جدار الموت الذي يحيط به.
وعليه كان تدفق البضائع عبر الأنفاق وبعد ذلك وخلاله ربما عبر الاستيراد الخارجي من كل زاوية في العالم قد ساهم في إشعار المواطن بأن الأمور ليست بهذا السوء، بل إن هذا التدفق جعل أسواق القطاع تغرق ببضائع من كل بقاع الأرض لم يكن قد رآها أو خبرها قبل ذلك.
فأنت قد تجد عصيراً من أندونيسيا أو شاياً من الفلبين بجانب أنواع الشوكولاتة والحلويات والبسكويت بأنواعها المختلفة وبعضها طبعاً قد يكون صناعة ألمانية أو سويسرية، وكل ذلك يتوفر بسهولة وبأسعار ممكنة.
بل إن واحدا من أهم المشاهد البصرية في شوارع غزة حتى اليوم هو العروضات الكبيرة التي تقدمها السوبرماركتات ليست الضخمة فحسب مثل المولات بل تلك الصغيرة الحجم التي قد تراها في الشوارع الفرعية، حيث تجد أنواعاً مختلفة من العصائر أو الشوكلاتة أو الأجبان (ماركات مختلفة) معروضة على الرصيف أمام السوبرماركت تعلو كل صنف منها يافطة كرتونية توضح السعر المغري الذي يمكن أن يحصل المواطن به على كمية كبيرة من البضاعة.
مشهد بات مألوفاً في شوارع غزة، بل يمكن لك أن تقيس مدى تدفق التجارة من كمية البضاعة المعروضة على الرصيف.
في نهاية الأمر، فإن المواطن هو المستفيد حيث إنه يجد البضائع المختلفة متوفرة وبأسعار معقولة وتنافسية أمامه، وبالتالي يخفف عنه هذا عبء وثقل الحياة.
وحتى في الأوقات التي كانت تجارة الأنفاق تواجه بعض العراقيل مثلما حدث بفعل التغيرات في السياسة المصرية، فإن تدفق البضاعة الأجنبية لم يتوقف، وظلت تغزو الأسواق عبر المعابر الرسمية.
الضحية في كل ذلك بالطبع هو المنتج الوطني. المنتج الوطني الذي بات ميتاً في السوق المحلي. حتى البضائع البسيطة التي تتعلق بالأطفال من ألعاب وحلويات بات الصنع المحلي منها غريباً.
كل شيء بات يأتي من الخارج لأنه ليس هناك من ينظم عملية الاستيراد ويضبط جودة الأنواع وحاجة السوق الحقيقية.
فبدلاً من تشجيع البضاعة المحلية النامية والصاعدة نقوم بخنقها عبر إغراق السوق بالبضاعة ذاتها، المتوفرة أصلاً بطبعة محلية، من الخارج، وبالتالي نقتل كل فرص نمو الصناعة المحلية.
كان يمكن، ولابد من العمل على، تقنين عملية الاستيراد والتهريب عبر الأنفاق ضمن خطة وطنية شاملة تحافظ على المنتج الوطني وتعمل على تعزيزه وعدم محاربته بالبضائع الأجنبية.
هل من المعقول أن تصبح البضاعة الصينية والتركية متداخلة في كل تفاصيل حياتنا من ملابسنا الداخلية إلى ألعاب أطفالنا إلى مواد التنظيف إلى صناعة الأخشاب والأثاث إلى حتى فوانيس رمضان والحقائب المدرسية.
كل شيء حولنا لم يعد يحمل "صنع في فلسطين". كأن العبارة لم تعد ذات قيمة، وكأن البحث عنها لم يكن يوماً هدفاً وطنياً.
الأمر لا يقتضي أكثر من إعادة ترتيب الأوراق. أن نقوم بأي شيء ضمن رؤية وليس كنسق واضح من نزوعنا الجامح نحو ردات الفعل.
إن من يتصرف بطريقة عشوائية لا يمكن له أن يقوم ببناء مجتمع صحي وسليم، فالنتائج السليمة تأتي من مقدمات وخطط وبرامج سليمة أيضاً.
كأن همنا الأساسي أن يزداد الأغنياء ثروة وتكبر أموال التجار ومحدثي النعمية من أصحاب الأنفاق وغيرهم، أما المواطن فذنبه أنه يعيش هنا.
ليس أننا مجتمع استهلاكي بامتياز، بل يبدو أننا نحب أن نكون كذلك. صحيح أن الدولة الاستعمارية نجحت في تحويل مستعمراتها السابقة أسواقاً لبضائعها خاصة في مرحلة ما بعد تفكك (مرحلياً) الاستعمار في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن الكثير من تلك الدول نجح في أن تتحول إلى دولة قادرة صناعياً وبعضها تحول إلى دول صناعية فعلياً.
أزمتنا ليست في ارتهان اقتصادنا للاقتصاد الإسرائيلي (القوة الاستعمارية والإحلالية)، بل في نزوعنا نحو "التدمير الذاتي" من خلال استيراد كل شيء من أي مكان، كأن شعارنا "هيا نستورد"، دون أن نلتفت إلى الفوائد التي يمكن أن نجنيها من وراء ذلك أو المضار التي ستصيبنا منه.
بالطبع المجتمع المستهلك هو مجتمع لا يبحث عن التقدم للأمام، ولكن الأبعد من ذلك أن الخواص الاستهلاكية للمجتمعات تتعدد، فهي قبل وبعد كل شيء تعكس توجهات المجتمع وتكشف عن بعض القيم السائدة فيه.
لننظر إلى الإعلانات التي تعرض في ملاعب كبريات الأندية الأوروبية خلال مباريات الدوري الأوروبي تجد أن معظمها دعايات لشركات عربية، حتى أنك إن لم تكن متابعاً أو تعرف شيئاً عن الكرة يمكن لك أن تشك أنك تشاهد مباراة عربية.
طبعاً لأن المواطن العربي يتابع بشغف كرة القدم الأوروبية أكثر من متابعته لمنتخباته الوطنية، تتجه الشركات (لتعزز هذا الشعور) للدعاية هناك.