الديمقراطية خيار الشعوب المتطورة

حمادة فراعنة
حجم الخط

إذا كان أحد قيادات «تنظيم الشريعة في بلجيكا» يرى حرفياً أن «الديمقراطية كفر» فلماذا هو يقيم في بلاد الكفر؟ ولماذا لا يعود إلى أرض وطنه، أرض الإيمان والعقيدة والاستقامة والعدالة والمساواة؟؟ أم أنه يرغب ويتطلع لتحرير بلجيكا من أصحابها وعقائدهم وتصويب حياتهم؟ ما صرح به أحد قيادات تنظيم الشريعة في بلجيكا، مجهول الاسم، استفزاز لكل إنسان يؤمن بوراثة قيم الإنسان وتداخلها والاستفادة المتبادلة من إنتاج البشرية المشترك، فالدولة الإسلامية، بكل مراحلها ومسمياتها كان لها فضل على مسار البشرية وتطورها، مثلما استفاد العرب والمسلمون من تراث ما قبلهم من الأمم المتقدمة في ذلك الوقت، من الرومان والفرس، ومن العديد من القوميات التي سبقت العرب في تحضرها وتقدمها خلال مئات السنين، وأفادوا مَن جاء من بعدهم.
ولذلك ليست الديمقراطية نتاج المجتمع الأوروبي وحده، وإن كان له الفضل في تطويرها وفي تطبيقها، ولكنها لم تكن نتاج أوروبا الحديثة فحسب، بل هي عملية وراثية تراكمية مرت في محطات مختلفة حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في أوروبا الحديثة المتطورة، ورغم ذلك، فالديمقراطية لها تطبيقات مختلفة تعكس تطور كل مجتمع وثقافته وقيمه، ولكنْ ثمة أصول باتت راسخة في قيم البشرية جمعاء، في حق الإنسان في الاختيار وفي الحكم الرشيد، وتداول السلطة، ونتاج صناديق الاقتراع وغيرها من الأدوات والوسائل، واحترام حق الإنسان في الحياة وتحريم قتل النفس الإنسانية، وإنهاء حياته بالقانون والمحاكمة العادلة النزيهة، وأن لا يدعي أحد الإيمان دون غيره، وحق تمثيل السماء دون الآخرين، وتكفير من هو خارج فهمه ودينه ومذهبه، وأن يبقى التعايش والشراكة على أساس التعددية والندية، فالأصل في الإنسان والكون والخلق هو التعددية، لا فضل لأحد على أحد، إلا بالتقوى والعمل الصالح.
«داعش»، و»القاعدة»، وأحزاب ولاية الفقيه، وحزب التحرير، والإخوان المسلمون، تنظيمات سياسية عابرة للحدود، لا تتوقف عند قومية ولد عند بلد، ولأنها سياسة فهي تختلف عن بعضها البعض، في الأداء والفهم والإدارة والتعامل والأولويات، بعضها لا يحبذ العنف، ويؤمن بالعمل الجماهيري والنقابي والبرلماني، وبعضها يرفض ذلك ويؤمن فقط بالعمل الجهادي وصولاً إلى السلطة وإلى الحكم، وبعضها الثالث لا يؤمن لا بهذا ولا بذاك بل عبر انقلاب الجيش وتجنيد المؤسسة العسكرية، بهدف السيطرة على الدولة وإعلان الخلافة.
وطالما هم كذلك فهذا يعني أيضاً وجود اجتهادات أخرى، وأدوات متنوعة، ووسائل غير عملية وصولاً إلى السلطة، وطالما هم تنظيمات سياسية، فعليهم أن يدركوا وأن يفهموا وأن يتكيفوا مع معطيات أخرى تشاركهم التطلع وصولاً إلى إدارة الدولة ومؤسساتها على قاعدة تداول السلطة وفق نتائج صناديق الاقتراع، فالديمقراطية وسيلة للوصول إلى السلطة، وإلى مؤسسات صنع القرار، وهي ليست هدفاً، فالهدف هو الوصول إلى موقع صنع القرار، ولذلك يفترض أن لا تكون لها صلة بالكفر، كما يدعي صاحب «تنظيم الشريعة» المقيم في بلجيكا، الذي يستغل الديمقراطية المتاحة له باعتباره مواطناً بلجيكياً ويقول ما يُود قوله، وما له قاله، وما يقوله غيره، لا يملك شجاعة أن يقوله في بلده، وإذا ملك الشجاعة، فلن تتوفر له وسيلة ليقول ما يشاء، وما يؤمن به في مؤسسات بلده الإعلامية.  
أحزاب التيار الإسلامي في أغلبها كانت حليفة للأنظمة غير الديمقراطية، بل كانت إحدى أدواتها في مناهضة أحزاب وشخصيات التيارات السياسية الأخرى اليسارية والقومية والليبرالية، قبل أن يتصادما بعد نهاية الحرب الباردة، وبعد أحداث سبتمبر، وبعضها عاد للتفاهم والعمل مع الأميركيين والأوروبيين على اثر انفجار ثورة الربيع العربي، وهم وحدهم الذين استفادوا من نتائج الربيع العربي، بسبب تراثهم القوي خلال الفترة الواقعة ما بين الحرب العالمية الثانية، حتى نهاية الحرب الباردة، حينما تحالفوا ضد الشيوعية والاشتراكية والاتحاد السوفيتي، وضد عبد الناصر وصدام حسين وحافظ الأسد، وضد منظمة التحرير واليمن الجنوبي.
الصراع كان سياسياً، ولا يزال، ونتائجه سياسية، وهذا ما يحصل في ليبيا ومصر وسورية والعراق واليمن ومن قبلهم الصومال، وإن أخذ أشكالاً ومسميات مختلفة، ولكن أساسها سياسي والقتال والعمل المسلح هو تعبير سياسي بأدوات عنفية وصولاً إلى تحقيق نتائج سياسية، ليس إلا، فالعمل المسلح، وصناديق الاقتراع، وسائل وأدوات الوصول إلى السلطة، وأدوات الوصول إلى السلطة، إما يتم استعمالها لمرة واحدة، وإما تتكرر إيماناً بقاعدة تداول السلطة وفق نتائج صناديق الاقتراع، ويبدو لأن أحزاب التيار الإسلامي، لا تؤمن بالتعددية وتداول السلطة، فلذلك لا تحبذ الديمقراطية واستمراريتها، وهذا هو مصدر العداء لها وتكفيرها، وبذلك فهي لا تختلف في جوهرها عن الأنظمة غير الديمقراطية، ولذلك كانا في حالة التفاهم والشراكة طوال الخمسين سنة الماضية، في مواجهة التيارات اليسارية والقومية والليبرالية.