من بين موضوعات الصراع في سورية وعلى سورية أثار الانتباه مبادرة روسيا اقتراح مسودّة لدستور سوري وزعت على الأطراف المشتبكة على الأراضي السورية مباشرة أو من خلف ستار.
من واقع ما تناولته الصحف حول هذه المسودة وبنودها وموادها يمكن إبداء بعض الملاحظات المحددة والأساسية.
هذه الملاحظات لا تدّعي مناقشة مسودة الدستور المقترحة وبنودها، فأهل الكار أدرى بدروب مناقشتها ومسالكها الدستورية.
وليس المقصود مناقشة خلفيات واستهدافات ومقاصد روسيا من وراء المبادرة الى طرح المسودة. وبالتأكيد ليس المقصود التشكيك بالموقف الروسي الحليف الأساسي لسورية الوطن والدولة الجامعين.
هي مجرد ملاحظات محددة حول عناوين ومواد أساسية تثير التخوف بقدر ما تثير التساؤل.
وهي تتعلق أولاً وأساساً بهواجس ومخاوف تخص سورية الوطن والدولة: عروبتها، وحدة أراضيها، وسيادتها.
الملاحظات تأتي من موروث غني بخلفيات وقناعات قومية عربية مترسخة ومستقرة في البناء الذاتي والوجدان - الشخصي والجمعي- وبالعقل والعاطفة، كما بالحضارة والتاريخ وبالحاضر ورؤية المستقبل. وهو موروث يمتدّ بعمق في أجيال يصعب عدّها.
الملاحظة الأولى على شكل سؤال، لماذا تأتي مسودّة الدستور المقترح من روسيا؟
بين السوريين عقول وخبرات قانونية ودستورية تستطيع وضع مسودة الدستور بكل كفاءة واقتدار ومن موقع المعرفة الأعمق بالمجتمع في سورية وتطلعاته. وإذا كان التدخل الروسي في هذا الأمر ضرورياً بسبب الأوضاع الحالية، ألم يكن يكفي رفد الخبراء السوريين بمستشار روسي أو أكثر؟
وكما يمكن الاستنتاج فإن النظام السوري لم تتم مشاركته او استشارته في مسودة الدستور المقترحة وموادها بدليل ما نشره من تعديلات، بعضها جوهري، يقترحها أو يطالب بها النظام على المسودّة الروسية.
الملاحظة الثانية أن مسودة الدستور تسقط "العربية" من اسم البلد ليصبح "الجمهورية السورية" بدلاً من "الجمهورية العربية السورية" كما ظل مستقراً منذ أن تكوّن النظام السوري.
هذا ليس تعديلاً ثانوياً أو شكلياً، إنه تغيير يمس بالهوية الوطنية للبلد ولأهلها، كما يمس بحقيقة انتمائها الى العروبة والى الأمة العربية. إن أي تعديل أو تغيير أو مساس بحقيقة عروبة سورية وكل ما يرتبط بذلك أو ينتج أو يتفرع منه هو مساس بالشخصية الجمعية العربية على امتداد الوطن العربي، وبالشخصية الذاتية للمواطن العربي.
لقد عشنا أجيالاً بعد أجيال لا يمكننا أن نذكر اسم سورية في أي موقع أتى في الجملة أو في الحديث دون ربطه لزاماً بـ "العربية".
في وعي هذه الأجيال ووجدانها لا يمكن رؤية سورية بدون العروبة، ولا يمكن تصور عروبة بدون سورية.
ليس الأمر شكلياً أن تلحق" العربية" أو "العربي،" بالأسماء أو العناوين بكل أمر يتعلق بسورية: الجمهورية العربية السورية - القطر العربي السوري- الجيش العربي السوري- التلفزيون العربي السوري- العلم العربي السوري- المصرف العربي السوري- الطيران العربي السوري....
لا يمكن فصل عروبة سورية- والعروبة عموماً- عن اللغة العربية. واللغة دائماً مكون أساسي من مكونات الشخصية الجمعية المميزة لأي شعب، وتقع في صميم هويته الوطنية. وهي أداة التواصل، والأساس والمتن المكون لثقافته ولموروثه بكل تنوعه.
ليس هناك مَن أكرم اللغة العربية وتمسك بها وعاش وتواصل وعبّر وكتب وهتف بها في كل أمور حياته وتواصله ومناسباته الاجتماعية والثقافية والنضالية أكثر من سورية العربية.
عندما تكون في دمشق أو حلب أو أي مدينة أُخرى تشعر، من التفاصيل الكبيرة والصغيرة، براحة واعتزاز أنك في بلد وجوّ عربي كل ما فيه ينطق بالعربية.
هل سمع أحد مثلاً مذيعة في التلفزيون العربي السوري أو الإذاعة "تكسّر" اللغة العربية أو تطعّم كلامها بمفردات وتعابير بلغة أجنبية كما هي الموضة في كثير من التلفزيونات؟ وهل هي صدفة أن أغلبية وأفضل مدرسي اللغة العربية في مدارس الدول العربية هم من سورية العربية.
وهذه كانت الملاحظة الثالثة. فقد ساوت مسودّة الدستور بين اللغة العربية ولغة أُخرى ( والخوف أن تصبح لغات أُخرى) دونما تمييز ولا تحديد أو ضوابط، ولم تنص صراحة ان العربية هي اللغة الرسمية للجمهورية العربية السورية.
أمر سليم تماماً أن يصان حق أي أقلية قومية في الاحتفاظ بلغتها والتعامل بها في كل ما يتعلق بتواصلها وبأمور حياتها الخاصة حصراً، وأن تدرّسها لأبنائها في مدارس خاصة بها. لكن لا بد أن ينص الدستور بوضوح أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة وانها هي لغة التعامل الرسمية في الدولة ولغة التعليم الحكومي في جميع مراحله المدرسية والجامعية.
الملاحظة الرابعة أن بعض المواد، كما تم نشرها، تخلق تشوشاً واضطراباً حول تعاطي المسودة مع مبدأ وحدة سورية وسيادتها، ووحدة ووحدانية مؤسساتها الوطنية المركزية، بالذات الجيش العربي السوري. وقد يجري استغلال هذه المواد وتحويرها الى ترجمات وتطبيقات تحيد عن مبدأ الوحدة والسيادة الوطنيين، بالذات في الظروف والتدخلات التي تعيشها سورية في هذه المرحلة. من هذه المواد مثلا تلك المتعلقة بـ "جمعية المناطق" وما تعطي لها المسودة من حقوق وصلاحيات. ومنها المادة عن التعيين لمنصب رئيس الوزراء والوزراء بالتمثيل النسبي لجميع الأطياف الطائفية، وعن "حجز" بعض المناصب للأقليات القومية والطائفية. ومنها المادة التي تقبل ضمناً وجود "تنظيمات مسلحة أُخرى" إلى جانب جيش الدولة.