لم يحسم الرئيس الأميركي موقفه المعلن أمام نتنياهو في لقائهما المشترك يوم 15 / شباط من حل الدولتين، فقدم رؤية مبهمة تبدو أنها مقصودة لإبقاء الباب مفتوحاً على كل الاحتمالات، بما فيها التراجع التدريجي عن مضمون حل الدولتين لسببين: أولهما لأن البديل الإسرائيلي غير جاهز وغير مقنع، ويحتاج لتسويق مسبق حتى يتم إقراره كبديل عملي واقعي نحو تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بين المشروعين المتناقضين المشروع الوطني الديمقراطي الفلسطيني، في مواجهة المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي، وثانيهما لأن القرار الدولي والرؤية الأممية ما زالت قوية وحاسمة ولا ترى بديلاً عن استمرارية الظلم والاحتلال والعنصرية والفاشية الإسرائيلية الصهيونية اليهودية سوى إنهاء الاحتلال وإقامة الدولتين المتكافئتين على الأرض الفلسطينية الواحدة، والقرار الدولي والرؤية الأممية لم تكن سوى نتاج تطور بطيء وتراكمي للمواقف السياسية الدولية بما فيها الموقف الأوروبي، وكذلك الموقف الأميركي نفسه ومن قبل الحزبين الديمقراطي – كلينتون وأوباما، والجمهوري بوش الذي ساهمت إدارته في صياغة قراري مجلس الأمن 1398 و 1515، تعبيراً عن الحقائق المادية، والبشرية على الأرض، وبعد فشل عشرات السنين من العمى الأميركي في عدم رؤية الحقائق الفلسطينية، والانحياز المطبق لتل أبيب.
صحيح أن إدارة ترامب غارقة للآن على الأقل حتى أُذنيها في مستنقع الدعم التقليدي لتل أبيب وزادت ذلك بسبب تغلغل المزيد من العناصر اليهودية المتنفذة في مؤسسات صنع القرار التنفيذي لإدارة ترامب، ولكن الصحيح أيضاً أن ثمة تأثيرات مغايرة لتأثير زيارة نتنياهو ونفوذه في مختلف المؤسسات التنفيذية والتشريعية الأميركية، ومتصادمة معها تقف في طليعتها زيارة الملك عبد الله وسلسلة اللقاءات التي عقدها على التوالي مع كل من نائب الرئيس مايك بنس، وزير الدفاع جيمس ماتيس، وزير الأمن الداخلي جون كيلي، مستشار الأمن القومي مايكل فلين قبل استقالته، وتتويجاً مع الرئيس دونالد ترامب، وتركت بصماتها على الرؤية الأميركية، وستعقبها زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لواشنطن، وغيرهما من المسؤولين العرب الذين لا يملكون قوة اللوبي الصهيوني الإسرائيلي اليهودي، ولكنها لن تكون بلا نتائج، إضافة إلى موقعي أوروبا وروسيا، وتأثيراتهم المختلفة في السياسة الدولية التي لا تستطيع واشنطن نسيانها أو التغاضي عنها.
ولا شك أن السياسة الحكيمة للدبلوماسية الفلسطينية، والانضباط الكفاحي الفلسطيني بعدم التورط نحو أي عمل يمكن أن يحمل شبهات إرهابية يُساعد على قطع الطريق على تحريضات نتنياهو وعصابات أحزابه الائتلافية الفالتة من اتزانها، وتُعبر عن سياسات عنصرية فاشية واحتلالية واستعمارية متطرفة، وهي سياسة وخلاصة على ما تتركه من آثار قاسية ومدمرة ومؤذية على حياة الفلسطينيين في وطنهم، بقدر ما تتركه من أثر سيئ أمام المجتمع الدولي عن سلوك تل أبيب وسياساتها، وتُعري مضمونها، وتكشف حقيقتها كمشروع استعماري توسعي على أرض العرب الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين.
ليست زيارة نتنياهو نهاية المطاف ولن تكون نتيجتها قبراً لقضية الشعب العربي الفلسطيني، كما يتمنى أعداء الفلسطينيين، وكما يتوهم قصيرو النظر من جانبنا، فالشعب الفلسطيني أغلبيته موجودة على أرضه، ونضاله لم يتوقف، وحركة التضامن معه تتسع ولا تضيق حتى من أوساط يهودية مستنيرة ومعتدلة في صفوف الطائفة اليهودية في الولايات المتحدة، ما يعكس تفهم هؤلاء لعدالة القضية الفلسطينية، وشرعية مطالبها، وواقعية تطلعاتها، مثلما تعكس ازدياد التفهم اليهودي الأميركي لحقيقة المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي المتطرف .
زيارة الملك عبد الله للقاهرة، والبيان المشترك الأردني المصري، الصادر في أعقاب المباحثات 21 / شباط، تمت رداً على نتائج زيارة نتنياهو لواشنطن ومحاولات المس بمضمون حل الدولتين، مثلما ردت على محاولات التضليل الإعلامي المتعمد من خلال تسريب عقد قمة العقبة العام الماضي، للإيحاء بوجود تبدلات أو تسهيلات أو استعداد عمان والقاهرة للمساومة على حقوق الفلسطينيين، فجاء الرد حازماً بالتمسك بحق الفلسطينيين بإقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس، وإن ذلك من الثوابت القومية، وهذا ما سوف يحمله الرئيس السيسي في زيارته المرتقبة لواشنطن، ما ينسف أي رهانات إسرائيلية على وجود تراخ أردني مصري حول حقوق الفلسطينيين، وأن ذلك هو أرضية موقف القمة العربية وبيانها المتوقع في عمان ومن عمان في آذار المقبل.
نتنياهو وعصاباته الحزبية وقواعدهم من المستوطنين الأجانب على أرض الفلسطينيين ينظرون للواقع بعين واحدة، عين الغطرسة والتفوق والاستيطان والتوسع، لكنهم لا يتذكرون هتلر وبريطانيا والاتحاد السوفييتي كقوى عظمى تلاشت، ولا يتوفقون أمام هزائم فرنسا والولايات المتحدة وكل المستعمرين الذين اندحروا أمام صلابة جياع إفريقيا وفيتنام وشعوب أميركا اللاتينية .
الشعب الفلسطيني على أرضه، لا خيار أمامه، ولا وطن له سواه، وسيبقى سواء بانقسام «فتح» و»حماس» أو بدونهما، وسواء تحالفوا أم بقيت أمراضهم الحزبية الضيقة ومصالح قياداتهم الأنانية، وتمسكهم بسلطة بقوا فيها بسبب رضى الاحتلال عنهم، بوجود التنسيق الأمني بين رام الله وتل أبيب، والتهدئة الأمنية بين غزة وتل أبيب، وهذا لن يستمر إلى الأبد، كما هو المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي لن يدوم إلى الغد، هذا هو حكم التاريخ وتبدلات الواقع وضرورات الحياة .