على شاشة إحدى أشهر محطات الترفيه والمنوعات العربية، أمضى المهتمون بفن الغناء والطرب جل سهرتهم المنزلية، نهاية الأسبوع الماضي، في مشاهدة حفل اختتام برنامج النسخة الرابعة من مسابقة أعذب الأصوات الشبابية، والمعروف باسم "Arab Idol" (محبوب العرب)، وسط توقعات كانت مسبقة بفوز إما أمير دندن ابن دالية الكرمل قرب حيفا، وإما يعقوب شاهين ابن بيت لحم، اللذين أبهرا لجنة الحكام والمشاهدين.
أثار هذا الحدث الفني السنوي الشائق، نقاشات واسعة لدى المتابعين، ولا سيما في الأوساط الفلسطينية، غلبت عليها السياسة بالطبع، كما هي الحال دائماً في كل أمر يخص جانباً من جوانب حياة الشعب المنكوب. وهو ما عكسته تعليقات معظم المتدخلين عبر منصات التواصل الاجتماعي والإعلام التقليدي، والحوارات في البيوت ومراكز العمل؛ حيث انقسم هؤلاء بين من ابتهج بهذا الحدث الجميل الذي أنتج مرة أخرى فناناً فلسطينياً واعداً، وبين من أفزعه كثيراً كسر الصورة الانطباعية النمطية الرائجة عن شخصية المناضل العضوي.
كان الانقسام في الرأي جلياً، بين أقلية أحادية الرؤية للحياة، وذات موقف رجعي مناهض للفنون، بما في ذلك الموسيقى و"التشخيص"، حاكمت المشهد على قاعدة الحرام والحلال، ورأت فيه تشجيعاً للتهتك والانحلال، وبين أكثرية وطنية تقدمية ديمقراطية (من غير الشبيحة) تنظر إلى الفنون، على سائر أنواعها الإبداعية، كتعبير نضالي رفيع عن روح المقاومة بمعناها الشامل، وعن كونها رافعة قوة ناعمة من روافع الصمود في وجه الاحتلال والتهميش والتغييب، والذي كاد ينال من الهوية الوطنية، ويبددها مع مرور الوقت، لولا التمسك الشديد بالإرث والتراث، وكل هذا الإنتاج الثقافي في الشعر والرواية والفن والتطريز وغيره.
أعاد موقف الكراهية المتأصل عند الظلاميين، لأي لحظة فرح فلسطينية صغيرة، حتى لا نقول استثنائية، إلى الأذهان المثخنة بالجراح الراعفة والأوجاع المقيمة، الموقف ذاته من متسابق آخر، بات اليوم نجماً لامعاً اسمه محمد عساف، الذي تم اضطهاده في قطاع غزة، وجرى منعه ومن ثم تهجيره، بذريعة تشجيعه على الفسق والفجور. وقبل ذلك إزاء محمود درويش بقامته الشعرية الباذخة وقيمته الرمزية الخالدة؛ إذ لم يسلم هو الآخر من هجمات كلامية ضارية، وصلت حد تكفيره، وحدّث ولا حرج عن اضطهاد النساء المثقفات المبدعات.
ولعل السؤال الذي كان ممنوعاً من الطرح في ختام هذه المسابقة التي تزامنت، محض صدفة، مع مؤتمرين عرمرميين، انعقد أحدهما في اسطنبول تحت اسم فلسطينيي الشتات، وقفت وراءه حركة حماس، وثانيهما مؤتمر التأم في طهران تأييداً للانتفاضة (أين هي هذه الانتفاضة؟) نظمه آيات الله لجلب التأييد لخطابهم المخاتل، هذا السؤال هو: ألم يكن برنامج "محبوب العرب" أجدى وطنياً من هذين المؤتمرين اللذين لم يثيرا الحد الأدنى من الاهتمام، أو على الأقل لم يحظيا بما ناله هذا البرنامج الفني من متابعة كثيفة، شهدت عليها المشاهد المنقولة عبر البث الفضائي المباشر من بيت لحم ودالية الكرمل؟
لا يود المرء المضي بعيداً وراء تقليب النوازع والتنقيب في ماهية الأهداف والدوافع وراء هذه الكراهية، التي بدت كشكل من أشكال تعذيب النفس وجلد الذات، بعد أن انحاز الناس بأغلبيتهم الغالبة، إلى المغزى الماثل في مثل هذه المسابقة الفنية، ورفضوا مصادرة لحظة الفرح العابرة، استناداً إلى وعيهم لحقيقة أن حضور فلسطين على الشاشة المرئية، وفي الأسماع والقلوب العربية، كان مكسباً وطنياً مهماً، وقيمة نضالية لا تحتمل التشكيك، بل وإنجازاً مضافاً إلى سلسلة طويلة من الإنجازات المتفرقة المتحققة على طريق الدفاع عن فلسطين.
على أي حال، فإن الشعور بفداحة الظلم التاريخي المتراكم في النفوس، وشدة وطأة الألم الناجم عن الاحتلال والقمع والتقتيل والتهجير، يجب ألا يكرّس في الأذهان العامة صورة تكاد تقترب من حدود التقديس، وهي أن الفلسطيني يجب أن يكون إما فدائياً ملثماً لا ملمح له، أو شهيداً أو أسيراً أو لاجئاً معدماً، وليس أي شيء آخر؛ كأن يكون موهوباً، يكتب الشعر والرواية، يتعاطى الثقافة، ويغني للحب والحياة والكرامة الإنسانية، ويبعث في النفوس أعمق المشاعر الوطنية الدافعة إلى التشبث بالأرض وتعزيز الصمود والمقاومة بكل الأشكال المتاحة.
عن الغد الأ{دنية