كما هي عادة الإدارات الأميركية المتعاقبة، بدأت إدارة الرئيس الجمهوري الخامس والأربعين للولايات المتحدة عهدها بنشاط ملحوظ، ولكن لوحظ أيضا أنها تمنح أولوية ما للشرق الأوسط، حيث أن الرئيس دونالد ترامب التقى حتى الآن، أي خلال الشهور الثلاثة الأولى من دخوله البيت الأبيض كلاً من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، ثم الملك عبد الله الثاني، فمحمد بن سلمان وحيدر العبادي، ثم الرئيس عبد الفتاح السيسي، قبل أن يلتقي مجددا الملك عبد الله الثاني بصفته رئيساً للقمة العربية، فالرئيس محمود عباس.
وربما كان ذلك قبل أن يلتقي العديد من حلفائه الدوليين أو بعضاً من أقطاب السياسة الدولية، وهذا يؤكد بما لا يدع مجالا للشك بأن الرئيس ترامب مهتم فعلا بالشرق الأوسط من أكثر من زاوية، فهو أولا يريد أن "يصحح" ما يراه انحرافاً كان في السياسة الأميركية الخارجية في عهد سلفه الديمقراطي باراك أوباما، أدى إلى أن تفقد واشنطن الكثير من سيطرتها على المنطقة والتي سمحت لروسيا بالتحديد، ليس بالدخول إليها من بين الشقوق الأميركية وحسب، بل والى أن تنجح في "لي" الذراع الأميركية القوية، لدرجة أن العديد من قادة المنطقة هرولوا إلى موسكو، بمن فيهم حلفاء وأصدقاء تقليديون لواشنطن، بل وتاريخيون لها في المنطقة.
وثانياً هو يعيد ما هو تقليدي في السياسة الأميركية من أكثر من زاوية، فالديمقراطيون هم " ثوريون " من وجهة نظره، حاولوا إحداث تغيير في المنطقة، من خلال فتح مجتمعات مغلقة على أنظمة حكم تقليدية جداً، لذا اضطروا للتحالف مع أحزاب دينية، في مقدمتها الأخوان المسلمون، أما ترامب فهو من اجل إغلاق هذا الملف، يعيد تحالف واشنطن مع الأنظمة التقليدية الحاكمة، لذا كان من الطبيعي أن يتعامل مع أطراف محور الاعتدال العربي : مصر، السعودية والأردن، إضافة لإسرائيل بالطبع والعراق باعتبار انه ومنذ أن قام الأميركيون بإسقاط صدام حسين ( في عهد الرئيس الجمهوري الأسبق جورج بوش / الابن ) يعتبرون العراق بيدقهم في المنطقة.
إذن يمكن القول إن إدارة البيت الأبيض الجديدة قد عززت من قوة المحور العربي على النطاق الإقليمي، وأعادت له الروح، من حيث أنها جعلت من أنظمته الحاكمة حليف واشنطن مجدداً، وشجعته بالتالي على أن يفكر مجدداً بأن يتعامل مع ملفات الإقليم كقوة أو على الأقل كفاعل إقليمي، لا يقل شأناً عن إيران وعن تركيا.
في محاولة منها لاحتواء المستجد الأميركي وتداعياته الإقليمية، ذهبت إيران على الفور إلى الخليج تخطب وده وتعرض المصالحة، وذلك عبر بوابة عمان، لكن العرب من اجل ذلك لا يكتفون بأن تخرج إيران يدها من اليمن، ولا حتى من سورية، بل أن ترفع يدها عن العراق وربما أن تنسحب من الجزر الإماراتية، أي أنهم يطالبون بأكثر مما يمكن لطهران أن تقدمه.
أما تركيا، فهي ليست في حالة عداء أصلاً مع العرب، وهي تكتفي _ الآن _ بان تضع موطئ قدم لها في شمال سورية، يضمن لها إغلاق الأبواب أمام طموحات الأكراد على أراضيها، وتكتفي بتحقيق جزء صغير من طموحاتها الإقليمية بالحصول على شيء من نفط الشمال السوري، وان تقترب من النفط العراقي.
وقد انحسرت طموحات تركيا التي انفتحت قبل خمس سنوات على مصراعيها، حين بدا لها أن سيطرة الإخوان على أنظمة الحكم في العالم العربي، ما هي إلا مسألة وقت، لكن سقوط الإخوان في مصر ومن ثم في تونس، وعدم سقوط بشار الأسد، قد بدد هذه الطموحات.
المهم في كل هذا، أن إعادة بناء المحور العربي كقوة إقليمية، لن يتم وفق مصلحة واشنطن كقوة مستقلة، لا عن السياسة الأميركية ولا حتى بعيداً عن إسرائيل، فجمع العرب المعتدلين، بعد لحظة بدوا فيها أن كل واحد منهم بدأ يبحث عن نفسه منفردا، بعد توتر العلاقة بين أهم مكونين لهذا المحور وهما: مصر والسعودية، بعد تصويت مصر نهاية العام الماضي ضد قرار يدين نظام بشار الأسد، وما تبعه من تراجع مصر عن اعتبار جزيرتي تيران وصنافير سعوديتين، نقول : جمع العرب بعد هذا عبر واشنطن لن يكون بلا ثمن، فهو أولا يحدد أن هذا المحور يتشكل ضد إيران وبشكل علني، ومن يدري ربما يكون الأوان قد آن لتشن أميركا حرباً عسكرية عليها، تأخرت منذ ما بعد الحرب على العراق، أي تأخرت عقدا ونصف، بعد تشكيل تحالف إقليمي وربما دولي للغرض.
ثم ثانياً، يهدف لفتح القنوات بين حلفاء واشنطن التاريخيين في المنطقة، أي إسرائيل والسعودية ثم الأردن ومصر، وهذا يمكنه أن يكون من خلال القناة الفلسطينية، أي عبر إطلاق مفاوضات فلسطينية / إسرائيلية، سيعتبرها الجانب الفلسطيني ومن ثم العربي انجازاً، رغم أن إطلاقها لن يكون مرفقاً ولا مرهوناً أو مقروناً بالتوصل لحل سياسي يحقق الحلم الفلسطيني بإقامة دولة مستقلة على أراضي 67، وفق حل الدولتين على هذا الأساس.
حتى اللحظة، يقدم ترامب جزرة غير محددة المعالم، فهو حين يتحدث عن قناعته بإمكانية التوصل لحل، يريده ويصر عليه في ولايته، فانه حتى اللحظة لم يحدد أية أسس تكون عليها المفاوضات، ولا ملامح هذا الحل، هو فقط يقول بحل يتفق عليه الجانبان، وهذا جيد للفلسطينيين، لكنه ربما يفضل أن تجري المفاوضات وفق إطار رباعي إقليمي : أي فلسطيني / إسرائيلي _ مصري / أردني، حتى إذا ما توصل هذا الرباعي للحل، الذي يراعي مصالح أطرافه الأربعة، تتم مباركته من قبل الولايات المتحدة والسعودية، بما يعني انه سينتهي في إطار المبادرة العربية، المهم أن تعيد واشنطن ترتيب أوراق الإقليم بما يعيد لها السيطرة شبه المطلقة على الشرق الأوسط، وبما يحقق الأمن لإسرائيل، والبقاء في الحكم لأنظمة الحكم التقليدية، ضمن صفقة تكفل تحقيق هذا الهدف المشترك لكل هذه الأطراف.