في الذكرى العاشرة لاغتياله: أفكار سمير قصير باقية

mo
حجم الخط

يوم الثاني من حزيران القادم تصادف الذكرى السنوية العاشرة لاغتيال الصحافي والأكاديمي والمثقف الفلسطيني اللبناني سمير قصير. في ذلك اليوم الحزيراني الأسود أراد القتلة، أن يسكتوا صوته الذي لم يتوقف عن إطلاق نداء الحرية، أرادوا القطع بين أفكاره التحررية والديمقراطية وبين الأجيال الشابة صانعة التغيير، أرادوا أن يطفئوا شعلة الحرية، لكنهم فشلوا في إسكات صوت الحرية وأفكار التحرر كما فشل غيرهم من القتلة والمستبدين في كل مكان وزمان. فشتان بين قتل يكرس الاستبداد والظلم، وبين صوت يشدو للحرية، بين موت يصنعه القتلة وإن عاشوا، وبين حياة يصنعها الأحرار وإن استشهدوا . 

لم يسكت صوت سمير قصير المنادي بالحرية، بعد استشهاده بل ظل يتردد صداه ويعلو وينتشر سنة بعد أُخرى وعلى امتداد الأعوام العشرة الماضية. ظل صوته يتردد في لبنان وهنا في فلسطين وفي كل مكان تناضل فيه الشعوب من أجل حريتها. بقي سمير قصير حاضراً بقوة، كما بقي غسان كنفاني وكمال ناصر ومهدي عامل وحسين مروة وفهد وفرج الله الحلو وناجي العلي حاضرين بقوة. لم يستخلص القتلة الدرس من بعضهم البعض، فلا وقت لديهم يستثمرونه خارج القتل أوالتخطيط لقتل لاحق. 
 نتوقف في الذكرى العاشرة لاغتيال سمير قصير أمام تجربته الغنية بافكارها المهمة. ربط بين الاستقلال والتحرر الخارجي بالتحرر من الاستبداد الداخلي وانتزاع الديمقراطية. كان من ابرز الذين تصدوا لخطاب النظام المستبد الذي استخدم شعارات «الممانعة» و»دعم المقاومة» لتبرير الاستبداد والديكتاتورية المستدامة والسيطرة على شعوب وبلدان أُخرى. ساهم قصير في تفكيك خطاب الاستبداد عبر أبحاثه ومقالاته. ورأى أن الاستقلال والتحرر من الإمبريالية والاحتلال والرد على التدخلات الخارجية لا يستقيم دون إشراك الشعب في عملية التحرر والبناء. والمشاركة تبدأ بانتزاع الحريات الديمقراطية وإزالة العقبات التي تعترض التحول الديمقراطي السلمي داخل المجتمعات العربية. والتوقف عن كبح تطلعات الشعوب المشروعة في الحرية وفي بناء مستقبلها. ورأى قصير أن فضاء الحرية تحدده حاجات الشعوب وليس الحكومات الديكتاتورية. ويصنعه الحراك الاجتماعي للمجتمع المدني وتحديدا الحركات الاجتماعية والمؤسسات المدنية المواكبة لتطورات العصر وتجاربه الناجعة.
شجع سمير قصير الحركات التي بدأت في بناء مساحة للحرية بأسلوب سلمي ديمقراطي، وكان جزءا من نشاطها وحركاتها الاحتجاجية. ولم يقتنع بذلك النوع من تقسيم العمل السائد الذي يضع المفكر والكاتب في برج عاجي منفصل عن حركة الناس على الأرض. خلافا لذلك دمج قصير بين الدورين، دوره ككاتب ومفكر ودوره النضالي مع الناس، واقتنع أن التفاعل الفكري بين النخب الثقافية وشرائح المجتمع ومؤسسات المجتمع المدني، سيفضي الى تطور حقيقي في التصدي لحل قضايا المجتمع. وكان الدمج والترابط سببا لنجاح وحضور سمير قصير المميز. دفعته رغبته في التغيير الى المشاركة في تأسيس حركة اليسار الديمقراطي اللبناني الى جانب إلياس عطا الله ونديم عبد الصمد. الحركة التي حاولت تجاوز الإرث البيروقراطي الثقيل لليسار، فطرحت التغيير السلمي والعلمنة والعدالة الاجتماعية وبناء دولة القانون وإصلاح النظام اللبناني، بالخلاص من المحاصصة الطائفية العائلية التي تنتمي الى العهد الإقطاعي البائد، والتي شكلت ولا تزال تشكل عائقا كبيرا أمام تطور واستقلال لبنان.
ربط سمير قصير بين سورية ولبنان في سياق نقيض للربط الذي أقامه النظامان اللبناني والسوري، او الربط الذي أقامه حزب الله والنظام الأسدي. فثمة فرق جوهري بين ربط من فوق بين الحكمين وأجهزتهما الأمنية القمعية وجهاز حزب الله، وبين ربط من تحت بين الشعبين كما قال قصير في كتابه (ديمقراطية سورية واستقلال لبنان): طالما أن سورية ليست ديمقراطية فلا يملك لبنان حلم التمتع بالديمقراطية والاستقلال. وعزا تراجع دور بيروت الثقافي في العالم العربي الى تراجع الديمقراطية وتغول وإرهاب أجهزة الأمن. كان قصير من السباقين لرفض الثنائية التي تخير الشعوب والنخب السياسية والثقافية بين الديكتاتورية والإسلام السياسي. بين ديكتاتورية ونظام جاء على ظهر دبابة أميركية، بين تدخل إيران ومليشياتها وتدخل دول البترودولار العربية ومليشياتها. بين تدخل إسرائيلي في لبنان او تدخل النظام الأسدي. رفض قصير الثنائيات والتدخلات والاستقطاب لمصلحة أي من قطبي الثنائية المدمرة، وانحاز الى استقطاب ثالث هو الشعوب والقوى التي تناضل من أجل حريتها واستقلالها. رَفْض الثنائية هو جوهر فكر سمير قصير، ورَفْض الثنائية كان جوهر الثورات العربية التي أدخلت الشعوب كطرف ثالث، وطرحت حلا ثالثا أراد تغيير قواعد اللعبة السياسية لمصلحتها. كان فكر قصير سباقا، خلافا لفكر العديد من النخب اليسارية والقومية التي ظلت منحازة الى قطب من الثنائية الى النظام الذي واصل الولوغ بدم شعبه، وظلت تلتزم بمواقف النظام وبروايته عن الصراع وبحلوله التي تضرب عرض الحائط كل مطالب الشعب السوري تحت مبررات الحفاظ على وحدة سورية والحفاظ على الدولة السورية، مغفلة ان النظام هو الذي حول الدولة الى سلطة أمنية، وحول جيش حماة الديار الى جيش مدمر للديار ومشرد للشعب. لم يطالب هؤلاء النظام بالتراجع عن اي موقف من مواقفه العدمية، كما طالبه سمير قصير في وقت مبكر بتغيير يحول دون وقوع مواجهة مع شعبه -وكأنه يتنبأ بثورة الشعب السوري منذ العام 2005-. «المنحبكجيون» الذين يحبون النظام يريدون خضوع الشعب للنظام، والحفاظ على النظام يساوي الحفاظ على سورية، والحفاظ على آلة القمع الهمجية يساوي الحفاظ على الدولة.   
 وسمير قصير صحافي شجاع ظل يبحث عن الحقيقة وسط حقول من الألغام، ترك بصماته على الرأي العام من خلال مصداقيته ومبادئه والتزامه بأخلاقيات المهنة. لم يستخدم لغة الخطابة والتحريض والنفخ، بل اعتمد لغة الوقائع والمعلومات ومخزونه المعرفي والثقافي، والتزم الموضوعية التي تحترم عقول القراء والناس. رفع مع فريقه الإعلامي الذي كان يتزايد بمرور الوقت ذائقة القراء الجمالية، لكنهم كانوا جميعا يبنون إرادة التغيير السلمي الديمقراطي التي رأى فيها القتلة خطرا داهما، فردوا على طريقتهم الإقصائية بالقتل.