لن أخالفك. إنما أقر معك تماما إذا قلت إن الإسلام برىء من التوحش الذى يسمى إرهابا هذه الأيام. وقد تقول مثلما أقول إنه ولا دين أو اعتقاد إنسانى على وجه الأرض إلا وهو برىء من مثل هذا التوحش. إنما أسالك: لماذا يتوحش المسلمون، ولماذا يخرج من بين صفوفهم متوحشون صاروا من فظائعهم الجارية يتصدرون الآن وحشية العصر؟
أراك منبها: قل بعض وليس كل المسلمين. أقول لك: إن البعض طبع صورة الكل، حتى صار المسلم سؤالا عالميا وميدانا للفحص والتحرى من كافة الجوانب. والحاصل أن كلاً ربما يجد إجابة من نوع أو آخر لنفسه إلا المسلمين لا يجيبون أنفسهم، فلا يدركونها.
لا يكفى المسلم أن يقول مع كل حادثة وحشية، مثلما جرى أخيرا من تفجير المصلين فى كنائسهم: هذا ليس إسلامى. هذا ليس دينى الحنيف، لا يكفى أن يقول: إن المتوحشين بيننا قلة لا تمثلنا. لن يسعف العقل المسلم أن يعدد أسبابا أو مبررات لطغيان أقليته المتوحشة من نوع أنها رد فعل على طغيان القوى الغربية القاهرة، أو أنها من نسل تأويلات دينية مشوهة، أو أن المسلم المتوحش ناتج أوضاع قهر وطنى وسياسى أو أخرى اقتصادية واجتماعية. ليس لأن مثل هذه الأسباب غير ذات اعتبار، إنما لأن كلا منها يبدو جزءا من قطعة فسيفساء منقوصة أو غير مكتملة الملامح، فهذا النمط من الإرهاب المتوحش يشمل أصنافا من المتحالفين مع أمريكا ممن لا يقربون إسرائيل أبدا وآخرين ممن يعادونهما، وأغنياء وفقراء، وحمَلة شهادات عليا وآخرين يجهلون الأبجدية، وأهل شرق ونفرا من أهل الغرب، ومن الريف والحضر. أصناف متعددة فى تركيبة واحدة.
إيران الخومينى أول مَن استخدم عمليات التفجير بالنفس فى صراعات المنطقة بداية من أكتوبر عام 1980 عندما لف طفل إيرانى عمره 13 عاما قنبلة يدوية على وسطه، مهاجما دبابة عراقية، فى مدينة خور مشهر جنوب غرب إيران، وفى نهاية العام الذى يليه تم تدمير السفارة العراقية فى بيروت بشكل كامل، فى هجوم انتحارى بسيارة مفخخة. من بعدها أصبحت الساحة اللبنانية مركزا لتصدير العمليات من هذا النوع ضد أهداف أمريكية وإسرائيلية فى لبنان، بقيادة حزب الله اللبنانى، وإلى جانبه الحزب القومى السورى.
آنذاك استنكف أغلب المسلمين السُّنة مثل هذا الأسلوب، إلى أن تولت منظمات الجهاد وحماس الفلسطينية ممارسته وتوزيعه وإشاعته فى أوساط المسلمين السُّنة، ومن بعد صار أسلوبا موظفا فى النزاعات الدولية كالصراع الأفغانى بين أمريكا والاتحاد السوفيتى السابق، إلى أن بلغ تحوره الأخير فى تدمير الدول والمجتمعات العربية خصوصا، والتركيز على تنمية الصراعات الدينية والطائفية داخلها كما جرى ويجرى فى مصر حاليا.
الشاهد هنا أن هذا النمط من الإرهاب المتوحش، وإن حاول فى بداية ظهوره المعاصر امتطاء النوازع الوطنية والقومية ضد أمريكا وإسرائيل، إلا أنه سرعان ما انكشف على حقيقته كتوحش محض يفتك بمجتمعاته قبل أن تحسب أنه يفتك بالآخرين وأن نتيجته لا تأتى إلا لصالح الآخرين، خاصة ممن هم فى عداد خصوم الأوطان والمسلمين.
وإلا فقل لى: ماذا يفعل حزب الله فى سوريا حاليا غير أنه يفتك بسوريا إلى جانب إيران وكل ما هو صنف غير سورى فى سوريا؟ وما الذى تفعله حماس فى فلسطين المحتلة غير اقتطاع غزة من كيان الفلسطينيين الواحد؟ واسأل، وإن لم يسأل مثل هؤلاء: كيف تربح إسرائيل؟ الأجدر بك أن تسأل: ماذا يفعل مثل هؤلاء بمصر الآن؟
قد تقول إن إيران هى الأصل ومَن تبعها مجرد صورة، وربما تقول: بل صنيعة الغرب وإسرائيل فينا، لكنك لا تقول سوى أن لديك قابلية لما يفعله الخصوم بك، أولى بك أن تسأل: لماذا لديك هذه القابلية؟
الثابت قطعيا أن فكر الإرهاب المتوحش استحمر أصحاب الفكر الوطنى والقومى تماما كما استحمر أصحاب الفكر الدينى المحض. والظاهر على هذا المستوى أن الفكر الوطنى والقومى يدور فى عمومه فى فلك الفكر الدينى، وأن الأزمة المزمنة إنما تنبع من تمحور فكر أغلب المجتمعات المسلمة المعاصرة حول فهم دينى عام قوامه الأساسى خليط ثقافى قاصر عن إدراك العصر لكنه عتيد، قوامه أن الدين مجرد أحكام وشرائع حرفية تنظم علاقات المجتمع المسلم فى داخله ومع الآخرين، ويخضع تفسيرها لتأويلات قديمة لكنها فاعلة فى الحاضر وتشكل أساسا وحيدا لأصول الدين. بينما يصعب الفصل فى عموم المجتمعات المسلمة بين صفاء نصوص الدين والثقافات التقليدية الراكدة فى مجتمعات المسلمين المحلية، حيث تختلف الطبائع حتى داخل المجتمع المسلم الواحد.
مثل هذه الثقافة منهارة وداعية باستمرار للانهيار والتفسخ الذاتى، وهى مثال ليس فقط للتأخر المسلم، بل للانتحار الذاتى للمجتمعات المسلمة وانفجارها، ومن نتائجها الطبيعية تفجير الأفراد أنفسهم والإرهاب الوحشى بيد منظمات مسلمة.
أسمعك تقول: لابد من تنقية تراث الفكر الدينى، لكن دعنى أسألك بوضوح: تنقى ماذا من ماذا؟ لن تفعل سوى اختيار قديم واستبعاد قديم. بينما الحقيقة أنك تريد بنية فكرية ثقافية جديدة متطورة، يتم تجاهلها أو استبعادها باستمرار مع أنها الأصل وليس غيرها. لأنها بذاتها ما تؤسس الفكر المسلم أفرادا ومجتمعات على أساس الحقائق الوجودية الثابتة وغير القابلة للشك أو التصرف، ناهيك عن أن تكون قابلة للاستحمار. أو تجاهل مثل هذه الحقائق الحاكمة:
أولاها: أن القرآن الكريم، وإن كان بذاته صالحا لكل زمان ومكان إلى الأبد، إلا أن عملية تفسيره وتأويله تظل متطورة حسب الزمان والمكان والعصر والأوان، وأن كل تفسير أو تأويل قديم- مهما علا قدره- يظل صالحا لزمانه ومكانه وقد رحل عصره، بينما بقى القرآن الكريم ويظل باقيا.
ثانيتها: أن أى تفسير يجافى أصول الحقائق الوجودية الواردة فى القرآن إنما يجافى ما قضى به رب العالمين ذاته. هذه الحقائق هى: أن الخالق هو الله، وأن مخلوقاته متعددة متنوعة، وأنه لا سلطة لمخلوق فى وجود مخلوق، وأن العلاقات بين المخلوقات إنما تتم بالحوار والتفاعل والتعايش. وإلا فاسأل نفسك: لماذا قال جل جلاله لملائكته: «إنى جاعل فى الأرض خليفة» إلا ليضرب لنا مثلا؟
بالمثل هل كان لشيطان أن يقول لرب العزة: لا، إلا ليضرب لنا مثلا؟ وأن من الحقائق الوجودية أن الله لا يقبل التعامل بعنصرية تجاه مخلوقاته، وأنه لا أفضلية لمَن خلقه من نار كما الشيطان على مَن خلقه من طين كما الإنسان، إلا بالخضوع لأمر الله، فما بال مسلم- لا يعرف إن كان مصيره جنة أو نارا، وعلمه عند الله- أن يحدد لغيره مصيرًا غير ما لا يعرفه لنفسه أو كيف له أن يتعامل بعنصرية مع بقية خلق الله؟
ثالثتها: أن أى تأسيس لنظام سياسى- اجتماعى لا يطابق حقائق الوجود فى التعدد والتنوع والتعايش والحوار فى داخله ومع الآخرين، إنما يحمل بذور الاضطراب والفشل والعنصرية والتوحش.
عن المصري اليوم