. وحتى وقبل انتظار نتائج الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية الفرنسية، أحدثت نتائج الدورة الأولى ما يشبه الانقلاب الانتخابي في إطار الجمهورية الفرنسية الخامسة، فمنذ قيام هذه الجمهورية، أواخر العام 1958 على يد الرئيس الجنرال شارل ديغول وتحويل النظام السياسي من النظام البرلماني إلى نظام رئاسي ـ برلماني مختلط، تناوب منذ ذلك التاريخ، على رئاسة الجمهورية كل من يمين الوسط ويسار الوسط، إلاّ أن نتائج الدورة الأولى للانتخابات الأخيرة، أطاحت تماماً بهذا التناوب مع سقوط أدواته الحزبية، ولعل البعض يرى في بزوغ الدور المؤثر لليمين المتطرف بزعامة ماري لوبان، المعلم الأساسي لهذه النتائج، إلاّ أن فوز ايمانويل ماكرون وتأهله للدورة الثانية، مع أصوات كافية للوصول إلى الأليزيه تقريباً، يعتبر على نطاق واسع، هو الذي أحدث هذا الزلزال في بنيان الجمهورية الفرنسية الخامسة.
سقوط أحزاب تاريخية تقليدية رغم شعاراتها التي تحاكي المطالب الشعبية، يعود في الغالب، ليس فقط الى رغبة الشعب الفرنسي بالتغيير، إذ ان هذا التغيير هذه المرة لم يكن تغييراً في تناوب هذه الأحزاب التقليدية، بل تغييرا بحجم انقلاب سياسي حقيقي، عندما يؤهل زعيم جديد لحزب جديد، وقيادة شابة، أقل تجربة من معظم المرشحين للرئاسة، للوصول إلى الدورة الثانية بأصوات قياسية، فإن الأمر لا يعكس مجرد تغيير، بل يعكس انقلابا يشير إلى تعفن هذه الأحزاب التقليدية التي أصابها الوهن والشيخوخة، ولم تتأكد هذه الأحزاب من هذه الحقيقة، إلاّ بعد أن اضطرت إلى دعوة ناخبيها للتصويت للخصم السياسي الجديد، ماكرون، خشية من وصول زعيمة الجبهة الوطنية ماري لوبان إلى قصر الأليزيه، مع أن بعض استطلاعات الرأي أشارت إلى أن عدداً لا بأس به من ناخبي هذه الأحزاب لن ينصاعوا إلى هذا المطلب، غير أن ذلك لن يؤثر كثيراً على النتيجة النهائية المرتقبة بفوز ماكرون.
ويشكل هذا الانقلاب صدمة ثالثة حقيقية على صعيد النظام السياسي الدولي، بعد صدمة تصويت بريطانيا لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، وفوز ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأميركية، الأمر الذي يوحي بأن هناك اتجاهاً يمينياً يجتاح النظام السياسي الديمقراطي في أوروبا وأميركا، مكّن "لوبان" من الاستفادة منه لتجييش أعداد أكبر للتصويت لها، كما يعكس الأسباب الحقيقية وراء اهتمام العالم كله، خاصة دول الاتحاد الأوروبي، بهذه الانتخابات التي حظيت بانتظار وتغطية واسعة لتفاصيل هذه الانتخابات ونتائجها، لما لها من انعكاس مباشر على الاتحاد الأوروبي ومدى تماسكه، كما يعكس طبيعة العلاقات المحتملة بين فرنسا والولايات المتحدة، في حال فوز "لوبان" التي تدعو للخروج من الاتحاد الأوروبي بكافة مؤسساته، كما أنها تعترض على سياسات ترامب و"العولمة المتوحشة" التي يتبناها كما يتبناها، أيضاً، منافسها ماكرون، وهي- لوبان- تتخذ موقفاً عدائياً ضد المهاجرين، فإنها من ناحية ثانية تشكك بالهولوكوست، وعلى الأقل، فإنها تشير إلى ضرورة عدم تحمل مسؤولية الشعوب الأوروبية عنه، إلاّ أن معاداتها للسامية، قد تدفع بمزيد من اليهود الفرنسيين للهجرة إلى الدولة العبرية، فقد دعت إلى سحب الجنسية الفرنسية ممن لديهم جنسية مزدوجة، واعتبرت إسرائيل أن يهود فرنسا هم المعنيون بهذه الدعوة!
وبينما أشارت نتائج الدورة الأولى، إلى أن الأحزاب الكبيرة ليست قدراً مستمراً فإن احتمالات فوز لوبان تظل محدودة للغاية، لكن السؤال الذي لا بد من طرحه: ماذا لو حدثت مفاجأة، كتلك التي حدثت في الصدمتين السابقتين في بريطانيا والولايات المتحدة، وفازت "لوبان" بالوصول إلى قصر الأليزيه، بعد ان كان كل طموحها السيطرة على معظم بلديات البلاد؟!
في حال فوزها، هناك مشكلة صعبة الحل ستطال النظام السياسي الفرنسي، وهو كما هو معروف فريد في الدستور الذي يقوم عليه، إذ أن النظام الرئاسي يستند بالضرورة إلى الشرعية البرلمانية، رغم أن الرئيس منتخب بشكل مباشر من الشعب، فالحكم في هذه الحالة سيظل اقتساماً لسلطات متنافسة ومتضاربة. صلاحيات رئيس الوزراء والحكومة، هي صلاحيات تامة في كافة شؤون البلاد، باستثناء الجوانب الخارجية والدفاعية والداخلية، حدث ذلك في السابق، إلاّ أن الأمر ظل محصوراً بين يمين الوسط ويسار الوسط، وليس بين اليمين المتطرف، وباقي الأحزاب التي تشارك في الحكومة. الانقسام هذه المرة سيؤدي إلى عدم استقرار من الصعب التغلب على عواقبه!!