«مهما كانت براعة الدبلوماسية الفلسطينية، فإن عليها أن تتلافى، قدر الإمكان، خلافاً استراتيجياً مع الولايات المتحدة في موضوع أساسيات السلام الفلسطيني ـ الإسرائيلي. من ثم، فإن القبول المبدئي الفلسطيني لأفكار المشروع الأميركي، بعد توضيحها، يعتبر خطوة تاريخية وشجاعة، على اعتبار أن ديناميات اتفاقية السلام ستولد واقعاً يتجاوز النصوص والبنود إلى معاني وحالة السلام».
***
ما ورد أعلاه هو خاتمة عمود «أطراف النهار» في 2/12/2001 معنون: «اقبلها واقلبها» بعد طرح أفكار كلينتون، بعد فشل مؤتمر كامب ديفيد 2000، ومفاوضات شرم الشيخ التي تلته.
آنئذ، لم تكن «رباعية مدريد»، ولا «خارطة الطريق» ولا مشروع السلام العربي، أو موضوعة «الحل بدولتين» للرئيس بوش ـ الابن.
هل «كلام الليل يمحوه النهار» أو بالعكس، أو كلام الأمس يمحوه واقع اليوم؟ اليوم، سترون على الفضائيات مراسيم اليوم الأول الرئاسي لزيارة الرئيس الفلسطيني للبيت الأبيض، ولقاءه مع رئيس الإدارة الأميركية. غداً، تقرؤون في الصحف الأصداء والآراء الأولى.
كان رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، قد حظي بتشريف خاص عندما استضافه الرئيس ترامب في «بلير هاوس». سينال رئيس السلطة الفلسطينية تشريفاً موازياً، حيث يلقى الرئيس وضيفه بيانين صحافيين في غرفة روزفلت لكبار الشخصيات، ويعقد اللقاء الثنائي في «الكابينت روم» بالبيت الأبيض.
لا أفهم كثيراً في مراسيم البروتوكول الأميركي، لكن مراسيم زيارة أبو مازن أعدت بعناية، سواء في لقاء الرئيسين، أو لقاءات الرئيس الفلسطيني بأقطاب الإدارة الأميركية، مثل نائب الرئيس، وزير الخارجية، مستشار الأمن القومي.. ومساعديهم.
غير واضح أن يشمل برنامج أبو مازن ما كان في برامج رئيس الحكومة الإسرائيلية، من خطاب أمام مجلسي الكونغرس، أو لقاء مع رئيسي الغالبية الجمهورية والأقلية الديمقراطية، ربما لأن الكونغرس أكثر تأييداً لإسرائيل من الإدارات الأميركية، في موضوع نقل السفارة الأميركية إلى القدس أو على الأغلب لأن علاقة الحليف الأميركية ـ الإسرائيلية لا تقارن بعلاقة الصداقة مع فلسطين.. ولا تتدخل السلطة بخلافات الرأي بين الإدارة والكونغرس، كما تفعل إسرائيل.. وربما يلتقي عباس مع بعض الشيوخ.
بعد رعاية كلينتون، في حديقة الزهور للبيت الأبيض، لتوقيع اتفاقية أوسلو، وحتى زيارته إلى غزة وبيت لحم، كان عرفات يقول: «صار لدينا صديق في البيت الأبيض».. لكن «الصديق» انحاز إلى «الحليف» الإسرائيلي في قمة كامب ديفيد، ثم طرح «افكاره» المتأخرة التي لاقت قبولاً من عرفات، وجرت مفاوضات في شرم الشيخ لبلورتها، قبل أن ينسحب منها ايهود باراك إلى الانتخابات.. ويخسرها لصالح شارون.
فاز الرئيس ترامب خلافاً لمعظم التوقعات، وكما دأبت السلطة على القول: نفاوض أي حكومة إسرائيلية ينتخبها شعبها، فهي تتعامل مع إدارة أميركية جمهورية كانت أم ديمقراطية، سعياً لحل أعقد وأصعب الصراعات في العالم.
إن ما فشل فيه الرؤساء: كلينتون، بوش ـ الابن، وخصوصاً أوباما، يريد أن يفلح فيه رئيس أميركي استثنائي بأفكار «من خارج الصندوق» ويسمى ذلك «صفقة كبرى» كأن المشكلة المزمنة مثل ذلك المكعّب ذي السطوح والألوان الستة!
هذا أيار خاص في عام خاص، وسيزور فيه الرئيس ترامب إسرائيل وفلسطين، لمدة يوم ونصف اليوم، ضمن جولة أوروبية وشرق أوسطية. أي إشارات والتفاتات مراسيمية، أو سياسية خلال زيارة أبو مازن، سوف تتوضح خلال زيارة ترامب وجولته الأوروبية والشرق أوسطية، بدءاً من الحليف الأوروبي الأوثق تاريخياً وسياسياً، أي بريطانيا.
خلال زيارة نتنياهو لواشنطن خيّر ترامب إسرائيل بين حل الدولتين، أو الدولة الواحدة، أي بين المرّ والأمرّ كما يقولون في حكومة إسرائيل، وفي المثل العربي السائر. أوروبا والإدارات السابقة الأميركية ترى في خيار الدولتين حلاً عادلاً وممكنا، ويحمي إسرائيل الديمقراطية واليهودية من مخاطر دولة ثنائية القومية، تكون ذات تمييز وفصل عنصري.
سواء مصادفة أم لا، فإن مجلس اللوردات الإنكليزي دعا الحكومة، قبل يوم من لقاء أبو مازن ـ ترامب، إلى التفكير جدياً بالاعتراف بدولة فلسطين، لأن موقف واشنطن من الدولة الفلسطينية يشكل «زعزعة» للاستقرار في منطقة مزعزعة.
كان مجلس العموم قد اتخذ قراراً تاريخياً في 14/10/2014، يحث حكومته على الاعتراف بفلسطين دولة، وبغالبية 272 مقابل 12، كما أن برلمانات 11 دولة أوروبية أوصت حكوماتها بذلك.
من الواضح، أن أوروبا الحكومية تنتظر خطوة أميركية بهذا الاتجاه، كما أن قمة عمان العربية الأخيرة، وزيارات التنسيق الفلسطينية مع القادة العرب، وخاصة الأردن ومصر المتسالمتين مع إسرائيل تؤكد على «الحل بدولتين» مربوطاً بتفعيل خطوات مبادرة السلام العربية التي صارت واشنطن تراها حلاً ثنائياً ضمن الحل الإقليمي الشامل، العربي والإسلامي.
أميركا، التي تكاد تحتكر الوساطات والحلول الدولية، منذ أوسلو، خصوصا صارت مع إدارة ترامب «تستحوذها» ضمن مفهوم «الصفقة الكبرى».
اليوم، ستعقد الدول المانحة لفلسطين، برئاسة النرويج، اجتماعا آخر، وهذه المرة سيحضر الاجتماع جايسون غرينبلات، صاحب فكرة ترامب لبناء اقتصاد فلسطيني، بينما الموضوع يتعدّى «مشروع مارشال» اقتصادي، فكر الكثيرون به إلى «مارشال سياسي» لحل على أساس دولتين: إسرائيل الحليفة الأوثق عالميا للولايات المتحدة، وفلسطين الصديقة لها، كما هو حال علاقة مصر والأردن مع الولايات المتحدة بعد معاهدتي السلام مع إسرائيل.
نعم، أهم قمة رابعة فلسطينية ـ أميركية تلقى أقل اهتمام من الشارع الفلسطيني المشغول بالتفاف غير مسبوق حول إضراب الأسرى، وجدال حول وثيقة حماس، بينما الوضع العربي في أسوأ حالاته كما يقول أمين عام الجامعة العربية أبو الغيط.
رئيس فاز خلافاً للتوقعات، مطلوب منه مواصلة سياسية غير متوقعة لحل أعقد وأصعب الصراعات. الفشل وارد، والنجاح ممكن.
إسرائيل تحتفل بتأسيسها، وفق التقويمين العبري والميلادي، وفلسطين بنكبتها.. ولدى إعلانه قيام إسرائيل، قال بن غوريون: لا أعرف ماذا يريد اليهود، لكن أعرف ما هو في مصلحة إسرائيل.
.. يبدو أن العالم صار يقول: نعرف ماذا تريد حكومة إسرائيل الحالية، لكن نعرف ما هو في مصلحة إسرائيل كدولة. كان بن ـ غوريون يقول: أميركا. ثم أميركا، ثم قوة إسرائيل وسياستها.