القدس "الملوّنة": جدران وخطوط زرقاء وحمراء تحت مظلة "فرّق تسد"

القدس
حجم الخط

الأكثر قداسة، الأكثر حباً، الأكثر كراهية، الأكثر إشكالية من أية مدينة أخرى في العالم، تهز القدس من يدخل أبوابها وتلزمه بأن يضعها على الطيف الذي بين «برميل البارود» و»راحة النفس».
هذه ليست مدينة مختلطة بالمعنى الدارج للكلمة، الأحياء فيها ملونة ومصنفة بدقة، هذه عربية، هذه حريدية، هذه دينية قومية، هذه علمانية. حينما كتبت نعومي شيمر قصيدة «في قلبها سور» كانت تقصد سور البلدة القديمة، ولكن في العام 2007 بني جدار إضافي في المدينة هو جدار الفصل الذي يُخرج فعليا عشرة أحياء عربية خارجها.
سكان هذه الأحياء يحملون بطاقات الهوية الزرقاء، «الخط الأزرق» الذي يرسم حدود المدينة يحيط بهم من جهة وجدار الفصل من الجهة الأخرى.
يعيش اليوم في العاصمة 840 ألف شخص، ضعف سكان تل أبيب ويافا. كانت القدس مقسمة مدة 19 سنة منذ العام 1948 وحتى حرب الأيام الستة، بعد تحرير المدينة بأسبوعين رسمت حدودها وتم ضم شرق المدينة. سكانها العرب الذين كانوا مواطنين أردنيين حصلوا على مكانة «ساكن»، أي لهم جميع الحقوق الإسرائيلية باستثناء الترشح والانتخاب للكنيست، وعندما أعلن الأردن عن فك الارتباط في العام 1988 عن يهودا والسامرة وجد سكان القدس أنفسهم دون مواطنة.
كانت المعايير التي اعتمدتها لجنة وضع الحدود هي: أكبر قدر من الأراضي وأقل ما يمكن من السكان العرب، سيطرة استراتيجية عن طريق الحصول على الأراضي وانشاء مطار دولي.
هذه المعايير الاربعة خلقت خطاً حدودياً ملتوياً وغير طبيعي، ومختلفاً عن مدن اخرى تتطور من المركز إلى المحيط.
رغم محاولات ضم أكبر قدر ممكن من الاراضي مع أقل قدر من السكان، إلا أن عدد العرب في المدينة قد ازداد بـ 24 بالمئة، ومنذ أن تم ضم المدينة تجرى محاولات لتشجيع الهجرة اليهودية الايجابية إلى العاصمة، مع هجرة عربية سلبية، لكن هذا التوجه لم ينجح، والعرب اليوم يشكلون نحو 40 بالمئة من سكان المدينة.
منذ توحيد القدس تحول البناء فيها إلى أداة سياسية قومية، فقد أقيم 16 حيا لليهود. العرب لم يقفوا مكتوفي الأيدي، ومن الوثائق التي ضبطت في بيت الشرق تبين أن دول الخليج دفعت ملايين الدولارات لتمويل البناء في القدس بشكل قانوني وغير قانوني.

خطة التقسيم
هذا الواقع، العيش بين الخطوط، أوصلنا إلى أمرين: جمعية «عير عميم» اليسارية، و»آريه كينغ» عضو مجلس بلدية القدس ورئيس حركة القدس الموحدة، من اليمين. «نحن نلعب الغواصات مع العرب». قال لنا الداد، وهو مرشد من قبل «عير عميم» أخذنا في جولة في شمال المدينة، «خلقنا مشكلة لا حل لها، ولا يمكن تقسيمها».
الموقع الذي تم اختياره لوضع الأحياء اليهودية ليس صدفيا، وهو يهدف إلى الحفاظ على القدس موحدة ويُصعب تقسيمها، وقد أقيمت الاحياء اليهودية بين القرى العربية من اجل منع التواصل الجغرافي العربي في القدس، اضافة الى ذلك، القانون الذي قدمه البيت اليهودي في الكنيست الاخيرة، يلزم بوجود اغلبية 80 عضو كنيست من اجل الحديث عن حدود المدينة.
كان الهدف المعلن لبناء جدار الفصل أمنيا: منع دخول المخربين إلى داخل المدينة ومنها إلى منطقة المركز. الجدار مبني من الاسمنت ويبلغ ارتفاعه 6 – 8 أمتار ويمتد على طول 168 كيلومترا من «هار أدار» في الشمال وحتى «غوش عصيون» في الجنوب، وهو يمر من بين عشرة أحياء عربية ويفصلها عن المدينة.
إضافة إلى المشاعر الصعبة التي يخلقها الجدار، فان تأثيره على الحياة اليومية كبير جدا، فقد تحولت هذه الاحياء الى مناطق خارج السيطرة الاسرائيلية وتطبيق القانون، والشرطة لا تصل تقريبا الى هناك، والجريمة في تزايد وعائلات الاجرام تسيطر على الاراضي وتبني بشكل غير قانوني. محطات المخدرات مفتوحة دون أية مضايقة في وسط الاحياء. «إنهم يبيعون المخدرات في الشارع مثلما يبيعون الشوكولاتة»، قال لنا أحد السكان.
أحد الاحياء المعروفة والموجودة خلف الجدار هو مخيم شعفاط (يجب التفريق بين مخيم شعفاط وبين منطقة شعفاط). قصة اقامة هذا المخيم تُعيدنا الى العام 1964 حيث خططت في حينه زيارة للبابا بولص الثالث في الاردن وفي شرق القدس الذي كان محتلا من المملكة الهاشمية.
وقبل ذلك بسنة وصل الملك الاردني الى البلدة القديمة من اجل رؤية تقدم التحضيرات لزيارة البابا التاريخية. وقد استاء جدا: لاجئون عرب وفقراء كانوا قد هربوا من حرب 1948 وملؤوا شوارع القدس. الملك لم يرغب في أن يبقى هذا المشهد في مخيلة الحبر الأعظم.
تقرر اقامة مخيم اللاجئين بالتعاون مع وكالة الغوث بعيدا عن أعين البابا في شمال المدينة. وبعد ذلك بثلاث سنوات وبعد أن تم تحرير المدينة ووضعت حدودها، أصبح مخيم شعفاط داخل هذه الحدود. لماذا بقي مخيم شعفاط داخل حدود المدينة؟ هناك عدة اعتقادات: يمكن أن ضغط الوقت سبب هذا الخطأ، ويمكن أن المستطلعين الذين أرسلتهم الحكومة وقفوا في المنطقة ولم يلاحظوا وجود المخيم. وسواء كان هذا أو ذاك فان الامر أصبح حقيقة قائمة. يوجد مخيم لاجئين (وهو ليس الوحيد) في القدس، يحمل سكانه بطاقات الهوية الزرقاء ويحصلون على جميع الخدمات البلدية حسب القانون. اضافة الى ذلك فان النسبة الاكبر من مواطني اسرائيل العرب موجودة في هذا المخيم.
«أعتقد أن بنيامين نتنياهو تصرف بحكمة عندما فعل في القدس ما فعله اريئيل شارون في خطة الانفصال»، يقول آريه كينغ. ويضيف أن اقامة الجدار بشكل مختلف عن الخط الازرق يعني الانسحاب أحادي الجانب. وحسب زعمه فان بيبي يُقسم القدس فعليا.
كينغ الذي يحارب البناء غير القانوني في المدينة يصطدم بآذان صماء عند مطالبته تطبيق القانون في هذه الأحياء. وقد توجه الى المحكمة وأثبت أن الشرطة لا تطبق القانون. «بعد عشر سنوات من عدم تطبيق القانون، اعترفت الشرطة أنها تخاف»، كما قال.
كما هو معروف، لا يوجد فراغ في العالم، وعندما خرجت الشرطة الاسرائيلية من هذه الاحياء، دخلت الشرطة الفلسطينية. في فيلم كان قد أُرسل الى كينغ من كفر عقب التي تقع بالقرب من المنطقة الصناعية عطروت، تظهر الشرطة الفلسطينية وهي تدخل أحد المنازل داخل الحي من اجل جباية الضرائب.

القوي فقط هو الذي يعيش
الخدمات البلدية الاساسية مثل ازالة القمامة، البريد، اصلاح الشوارع، المياه، الكهرباء والمجاري غير موجودة في هذه الأحياء، حاويات القمامة محترقة وتشهد بأن الخدمات الأساسية مثل ازالة القمامة لا تتم خلف الجدار. هذه جنة عدن للمافيا وتجار السلاح والمخدرات.
«اليوم توفي طفل عمره 10 سنوات من المخدرات»، قال بهاء نبابتة، ممثل لجنة ضاحية السلام ورأس شحادة ومخيم شعفاط للاجئين. «بشكل عام من الصعب تصور ولد نشأ هنا دون المخدرات ودون العنف. فما هي فرصة ألا يكون خارجا على القانون؟ عندنا القوي فقط هو الذي يعيش، لا يوجد قانون ولا توجد شرطة».
في الاشهر الثلاثة الاخيرة قتل أربعة اشخاص من اصحاب المحلات من قبل منظمات الجريمة المحلية. «لا توجد ليلة دون اصوات الطلقات من ام 16» يقول نبابتة، «العائلات تقوم بتصفية بعضها البعض، هذه أصعب من الجواريش في الرملة».
اذا كانت الحال صعبة لهذه الدرجة لماذا تبقون هنا؟ يقول نبابتة لأنه لا توجد اماكن بناء في القدس، ينتقلون الى هنا ويبنون بشكل غير قانوني، «100 – 150 الف شيكل ثمن الشقة»، ولا توجد امكانيات اقتصادية للفقراء الذين يعيشون في المخيم من اجل الانتقال لمكان آخر.
محاولة التنازل عن السكان في هذه الاحياء عملت بشكل عكسي، من يستطيع ان يترك ولديه القدرة الاقتصادية دخل الى داخل المدينة واشترى أو استأجر شقة كانت حتى وقت قصير تعود لليهود، مثل بسجات زئيف والتلة الفرنسية، والبيوت التي تركت يسكنها اليوم فلسطينيون اصحاب هويات غامقة، أي سكان الضفة.
يتفق الجميع من اليمين واليسار على أن محاولة اساءة ظروف السكان العرب من أجل ترحيلهم قد خلقت مشكلة ديمغرافية، والهجرة السلبية المتواصلة هي للسكان اليهود، والعرب لا يتركون، بل على العكس، من يستطيع يدخل الى داخلها. «السكان يريدون العودة الى فترة ما قبل بناء الجدار»، كما يدعي كينج، «كان من الخطأ عدم محاربة الظاهرة، اليوم من يستطيع يهاجر لداخل المدينة».
ومن أجل تعقيد الصورة اكثر اليكم ما يلي: نصف عدد العرب الـ 320 الفا في القدس قدموا طلبات للحصول على الجنسية الاسرائيلية، كينج يؤيد منحهم مواطنة كاملة، وان تكون السيادة الاسرائيلية على الاحياء العربية كاملة، «انهم هنا بجميع الاحوال» يقول «ما هذا الهراء».
سياسة القهر ليست انسانية، يتفق على ذلك الطرفان، وهي تعمل ضدنا «اذا وضعت حيواناً في قفص، فهو يريد الخروج، فما بالكم بالانسان» يقول كينج «نحن السبب في هذه الكراهية، في العملية الاخيرة التي قتل فيها شالوم يوحاي زكري، كان القاتل من سكان مخيم شعفاط، يبدو أنه تعرض للاهانة على الحاجز امام والدي زوجته، وعندها، بعد أن اوصلهم عاد وقتل، نحن ندفع ثمنا كبيرا بسبب هذه الاخطاء».

«بعيد عن العين بعيد عن القلب»
اللجنة التي حددت حدود القدس، وطلبت بناء مطار دولي، شملت كفر عقب. هنا ايضا يقسم الجدار القدس عن احد احيائها»، بعد شعار بيرس يقسم القدس بعشر سنوات، والذي تسبب بفقدان حزب العمل السلطة، قام شارون بتقسيمها» يقول الداد من عير عميم. «اذن كيف نتنازل عن هذا؟ ببساطة ما هو بعيد عن العين، بعيد عن القلب».
في اليسار واليمين متفقون ان تراجع اعمال الارهاب لم يكن بسبب الجدار الفاصل، في عير عميم يثبتون ذلك من خلال حقيقة أن الجدار في القدس غير مكتمل، وفي اليمين يقولون ان تراجع هذه الاعمال حدث في نفس الوقت على جانبي الجدار وبسبب الاستخبارات، وعملية السور الواقي ومصالح فلسطينية داخلية، توجه آخر وليس مرتبطا بالضرورة بالجدار، هو ازياد العمليات المرتبطة بمخربين مقدسيين: هنا يوجد تأثير بسيط لابو مازن ومصلحته السياسية.
«ان عدم هدم بيوت المخربين في عملية هار نوف هو السبب في استمرار العمليات، عندما يرى العرب ان المخرب لا يعاقب، لا يوجد ردع.
هذه هي مشكلتنا في القدس»، يقول كينج ويتطرق لما حصل في حي شعفاط بعد مقتل الشاب محمد أبو خضير، حينها حصلت الشرطة على أوامر العمل بيد من حديد، مر وقت طويل، ولكن في النهاية يوجد هناك قانون»، يقول كينج «أين يمر الخط الاحمر؟ من ناحيتي يجب أن يكون هذا الحدود البلدية للقدس».
في عير عميم ايضا يتحدثون عن شعفاط حيث احرقت محطات القطار الخفيف وبقيت كذلك لمدة عام، يتحدث كينج عن عدم فهم العقلية العربية عند علاج المشكلة: «اذا كان هذا فعلا عقابيا فمن الافضل ان لا يقف القطار في المحطات التي احرقها العرب، لكنه يتوقف. وبسبب احراق ماكينات التذاكر فانهم يسافرون دون دفع، هذا ليس عقابا، هذا ببساطة عدم اتخاذ قرار».
«لا يهمني من يسيطر هنا، السلطة الفلسطينية أو اسرائيل»، يقول نبابتة، قد يكون بجدية او بشكل استفزازي» نحن مثل المريض الذي ينتظر العملية ويعطونه اكامول، خلص، اذا كنتم لا تريدوننا اعطونا للسلطة».
بعد دقيقة يتراجع نبابتة ويقول انه يريد ان تقوم الشرطة الاسرائيلية بفرض النظام في الحي «اذا جاءت الشرطة ثلاث أو اربع مرات في اليوم، في البداية ستحدث فوضى، وبعدها يعتاد السكان».
«نحن نعطيهم الشعور بأنه لا يوجد ما يخسرونه» يقول كينج «لا توجد في احيائهم ملاعب كرة سلة أو كرة قدم، لا توجد مراكز ترفيه، بريد أو بنوك، في عناتا اقترح اصحاب الاراضي اليهود تأجير الارض للبلدية بثمن رمزي، من أجل بناء مراكز ترفيهية، ولم يتم ذلك حتى اليوم، نحن نبث ضعفا وهذه وصفة للارهاب».
على العكس من كينج، الذي يطالب بالسيادة الاسرائيلية على الاحياء وراء الجدار، فان عير عميم تطالب بتقسيم المدينة بهذا الشكل أو ذاك، وتعتبر البناء اليهودي في القدس عقبة، «نحن بانتظار اليوم الذي تستأنف فيه محادثات السلام. ونصل إلى طاولة الحوار بأيدٍ نظيفة، لذلك ممنوع أن نبني في القدس الشرقية، وما نفعله اليوم هو كمن يطلق النار على قدميه».

عن «معاريف»