قرب دوّار المنارة، وفي حرم الجامعة..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

يقول الأوّل: "لو تيجي داعش"، ويرد الثاني: أوشكت.

سمع العابر هذا الكلام، يوم أوّل من أمس، قرب دوار المنارة في رام الله.

وكان في الكلام ومناسبته ما يبرر أكثر، قليلاً، من نظرة عابرة. كلاهما في العقد الثاني من العمر، على الأرجح، ويفعل ما يفعل عشرات وربما مئات الشبّان، في شارع ركب، ووسط البلد، يمشي الهوينا، أو يقف على ناصية ما، ويقطع أياماً طويلة وثقيلة في مراقبة العابرين، أو الصبايا إذا شئنا الدقة.

وهذا طبيعي، ومفهوم تماماً، ويحدث في كل مكان آخر في الكون، ولا يُحرّض على تفسير أو تبرير، فمع ثورة الهرمونات، في أوّل العمر والصبوات، تغطي طبقة كثيفة من الكبريت سريع الاشتعال حتى النظرة العابرة.

ولكن ينبغي أن نفهم، ونعترف، أن من الطبيعي والمفهوم أن يُحرّض الكبت على العنف، أما الجديد فيتجلى في حقيقة أن داعش فتحت باباً للإشباع يتقنّع فيه العنف بالمقدّس. وهذه وصفة تكفي لتخريب العالم.

هذا لا يعني، بالضرورة، أن الغالبية العظمى من الشبّان، هناك، قرب دوّار المنارة، ووسط البلد، في رام الله، أو ما يشبه دوّار المنارة، ووسط البلد، في مدن عربية غيرها، يؤيدون داعش التنظيم، بل يعني أن الحدود التقليدية بين المعقول واللامعقول، لم تعد بالوضوح الذي كانت عليه حتى قبل عقود قليلة مضت.

وينبغي لأمر كهذا أن يكون من مصادر القلق، طالما أن غواية امتلاك نساء الآخرين بالقوّة أصبحت جزءاً مما ينجب الكبت من حلول بديلة.

تُغتصب النساء، يومياً، في كل مكان من العالم، ويُعامل الاغتصاب في كل مكان كجريمة، بصرف النظر عن التفاوت في العقاب من مجتمع إلى آخر.

ولكن الاستيهام الداعشي لا يحرر امتلاك نساء الآخرين من شبهة الجريمة وحسب، بل ويرى فيه جزءاً من صحيح الإيمان، أيضاً، وبهذا يُضفي على الإشباع الجنسي بالقوّة صفة القداسة، ويحرر الاغتصاب من خصوصيته الفردية، وحقيقته كنوع من الانحرافات الأخلاقية والسلوكية الجامحة.

أما كيف تزحزحت الحدود التقليدية بين المعقول واللامعقول فيتجلى في حقيقة أن امتلاك نساء الآخرين بالقوّة ينتقل، بالمعنى الثقافي والأخلاقي، وفي المخيال الاجتماعي العام، من خانة الانحرافات الأخلاقية والسلوكية الجامحة، إلى خانة الرأي الآخر، على طريقة "الجزيرة" القطرية.

وبهذا المعنى، لم تكن زحزحة الحدود وليدة داعش التنظيم، بل كان هو وليدها، لم ينجبها، بل أنجبته. فقد دعت داعية كويتية، قبل سنوات، إلى حماية الفحول من الفساد بسن قانون للجواري، بل واقترحت، ضمن أمور أخرى، مبلغ 2500 دينار كثمن للروسيات من سبايا المجاهدين في الشيشان. وفي مصر أفتى داعية ذائع الصيت بكون العودة إلى نظام الرق، والجواري والسبايا، هي الحل 
الأمثل لمشكلات الاقتصاد والفقر.

ثمة ما لا يحصى من دعوات كهذه، وكلها سبقت داعش التنظيم، بعقود أو سنوات. ولم ينتبه أحد إلى ما فيها من غواية وبارود، ولم يدع أحد إلى حظرها بقانون، بل عُوملت كرأي آخر، صحيح أن سمته التطرّف، ولكنه لا يشكل تهديداً للأمن العام، وسلام وسلامة البشرية في أربعة أركان الكون.

لم ينتبه أحد حتى وقعت الفأس في الرأس، وامتُلكت، واغتُصبت، وبيعت نساء اليزيديين، في أسواق الرقة والموصل.

وإذا كان ثمة من درس يُستخلص فإن الدرس الأهم أن ما حدث في الرقة والموصل يمكن أن يحدث في كل مكان آخر.

على خلفية كهذه نفهم "لو تيجي داعش" على لسان شاب ينظر إلى صبابا في شارع عام، كعنف لفظي يترجم تشفي ذكورة مجروحة بالعابرات اللائي ينتظرهن مصير أسود، وربما رغبة دفينة في الانتقام. وفي الرد الذي قد يكون نوعاً من التهكم، أو المواساة، وربما نبوءة على عجل، ما يفتح نافذة في صندوق باندورا العجيب لنطل منها على ما يتجلى فيه من انزياحات ثقافية وديمغرافية هائلة، لا تكل ولا تمل، في مدن تريّفت.

وربما في الصندوق نفسه ما يبرر التأمل، قليلاً، في بيان أصدرته "أطر يسارية" في جامعة في الضفة الغربية ضد زيارة "عضو الكنيست الصهيوني" أيمن عودة. ففي لغة البيان، وما فيه من مُحسنات لفظية مُفتعلة، ما يحرض على القول إن هؤلاء والمتحاوِرَين حول داعش، من قماشة واحدة.

وإذا كان ثمة من فرق فيتجلى في تقنين وتصريف العنف في قناة مختلفة، هي السياسة هذه المرّة.

لا ضرورة للتذكير بتاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، وما راكمت من خبرات، ولا ضرورة للتذكير بما في الكلام عن أيمن عودة من خطل وخلل.

اليسار في بلادنا فكرة وثقافة يعود تاريخها إلى مائة عام، نشأت على مدارها قوى وشخصيات وتنظيمات، أغنت ثقافة الشعب، ووسعت مداركه، وأنجبت أفضل وأنبل مثقفيه وفنانيه، وبعض أبرز رموزه الوطنية. لذا، ثمة ما يبرر التساؤل: ما معنى اليسار الفلسطيني اليوم؟ كيف يعرف ويعرّف نفسه؟ وكيف وصل إلى درك كهذا؟

ومع هذا وذاك، ثمة ما يبرر التساؤل: ما معنى الجامعة، إذا لم تكن أحد الحواجز الثقافية للحيلولة دون زحزحة الحدود التقليدية بين المعقول واللامعقول، وحماية الشبّان، هناك، قرب دوّار المنارة، وفي حرمها، كما في كل مكان آخر، من تقنين وتصريف العنف في استيهامات جامحة، بصرف النظر عن خصوصيتها الدينية أو المُعلمنة؟