.. وسرعان ما عادت باريس إلى الصمت، بعد فترة صاحت عقيرتها بنواياها الثابتة للتقدم إلى مجلس الأمن بمشروع حول الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، إثر ترحيب أبو مازن بهذه المبادرة الفرنسية، ما عدنا نسمع عنها شيئاً، سوى أن واشنطن ضغطت على باريس لإلغاء أو إرجاء التقدم بهذا المشروع، المبرر المعلن لطلب واشطن أن أميركا فتحت ملف العلاقة مع طهران في اطار برنامجها النووي، الأمر الذي فتح ملف العلاقات مع إسرائيل سلباً، وأميركا لا تستطيع أن تواجه تل أبيب بملفين متزامنين، الملف الإيراني، والملف الفلسطيني، لذا على باريس إرجاء ـ على الأقل ـ الحديث عن هذا الملف.
غير أن تطورات الأسبوع الأخير، دللت على أن الطلب الأميركي من فرنسا، ليس له علاقة مباشرة، بانشغال واشنطن بالملف الإيراني وتداعياته السلبية مع إسرائيل، بل إن الأمر يتعلق بمساع هادئة، بعضها بات معلناً، لطبخ صفقة على الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي، تتشابك الأخبار وتتقاطع حول أكثر من محور، لكن كلها تصب في اطار هذا الملف الشائك.
لقد اشار نتنياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية قبل بضعة أيام، إثر فوزه في انتخابات الكنيست الأخيرة، إلى أن "إسرائيل ليست الوحيدة المهددة من البرنامج النووي الإيراني، ولكن الآخرين القاطنين جوارنا، لذلك، قد ينشئ هذا الأمر مصالح مشتركة وفرصاً لتطوير تحالفات، ومن الممكن، أيضاً، أن يدفع عملية السلام قدماً" المحللون الإسرائيليون وأصحاب الرأي في وسائل الإعلام الإسرائيلية، علقوا على أقوال نتنياهو، من أنه من المحتمل كثيراً، أن يطرح رئيس الحكومة الإسرائيلية، نقاشاً حول "المبادرة العربية" وفكرة السلام الإقليمي كشكل من أشكال، إضاعة الوقت، والتهرب من الضغوط وحالة الحصار السياسي التي هددت بها بعض الأطراف الفاعلة دولياً، بعد أن تبين أن حكومة نتنياهو الأخيرة، هي الأكثر تطرفاً، ما يبرر لهذه الدول زيادة الضغط على الدولة العبرية، التوجه من قبل نتنياهو لفتح ملف المبادرة العربية والنقاش حولها وحول فكرة السلام الإقليمي، سيجعله يبدو أكثر اقتراباً من عملية السلام من أي وقت آخر، بينما واقع الأمر يشير إلى عكس ذلك تماماً.
وإذا ما تذكرنا كيف بدأت حكاية "المبادرة العربية" فإن العاهل السعودي العام 2002 طرح الفكرة من خلال صحافي أميركي، قبل أن تصاغ على شكل مبادرة، والآن هناك اطار جديد يتمحور أساساً على استثمار الأوضاع الإقليمية والدولية، فهناك حكومة يمينية في إسرائيل، ضعيفة من حيث التشكيل، قوية من حيث قدرتها على تبني مواقف جريئة، هناك من يقول في إسرائيل كما لدى بعض العرب، إن الحكم القوي في إسرائيل هو الذي انسحب من سيناء، ومن مستوطنات غزة، وليست حكومات العمل و"المعتدلين" وبالتوازي مع هذا التطور، هناك "البعبع الإيراني" وهو خطر بنظر دول الخليج، ليس من خلال برنامجه النووي، ولكن خشية دعمه للحركات المناوئة والثائرة على أنظمة الحكم، خاصة وأن هناك خشية باتت ملموسة، من تمدد هذه القوى لتطال حدودها الجنوبية مع اليمن، إضافة إلى خشية تاريخية دائمة، من ثورات المنطقة الشرقية، ذات الأغلبية الشيعية والغنية بآبار النفط الأساسية، هنا يكمن الخطر الإيراني كما تراه السعودية، وليس البرنامج النووي الإيراني.
في اللقاء الذي تم مؤخراً في العاصمة الأردنية عمان، بين ممثلين عرب من دول لا تقيم علاقات مع إسرائيل، ومسؤولين إسرائيليين، والذي كشفته وسائل الإعلام الإسرائيلية، ما هو جدير بالملاحظة، فقد رأى هؤلاء، عرب وإسرائيليون، أن "على دول المنطقة الاستعداد لواقع أمني يتراجع فيه النفوذ الأميركي في المنطقة" واعتقد أن هذه العبارة تلخص ما هو كثير وما هو خطير، إذ من المعروف أن الولايات المتحدة، وخدمة لمصالحها، كانت هي التي تؤمن الحماية للممالك والإمارات والأنظمة، خاصة في الخليج العربي، وكانت تعتمد هذه الأنظمة على الحليف الأميركي، لكن هذا الحليف بدأ يتضعضع وتتراجع قدراته وإمكانياته، ولا بد من البحث عن بديل، وأمام تدهور الوضع العربي بشكل عام، فإن إسرائيل قد تشكل بديلاً يمكن الرهان عليه، وهناك قواسم ومصالح مشتركة، تحدث عنها نتنياهو كما أسلفنا، تجمع بين هذه الأطراف وإسرائيل!!
على باريس الهدوء، والعودة إلى الحجر، هناك ما هو جديد، ولا داعي للتوجه إلى مجلس الأمن، هناك طبخة على النار، قاربت على النضج، والملف الفلسطيني الداخلي، ليس بعيداً عن هذه الطبخة، دولة غزة القائمة فعلاً، والحديث المتواتر عن إعادة بناء البنية التحتية لهذه الدولة، من ميناء وربما مطار والبنية الاقتصادية، قد تصب باتجاه توفير مستلزمات مثل هذه الطبخة!!
عدوان جديد على الضاحية الجنوبية لبيروت
26 سبتمبر 2024