ما تشهده ساحة الشرق الأوسط، من اصطفافات، وصراعات، هذه الأيام يؤشر إلى مرحلة أخرى جديدة، يمكن اعتبارها الانقلاب الثاني التاريخي الكبير، الذي يضرب المنطقة بعد الانقلاب الأول الذي دشنته ثورة الياسمين في تونس أواخر العام 2010.
الانقلاب الأول بدا وكأنه يرتدي اللون الأخضر، بلون تونس الخضراء، وحمل عنوان "الربيع العربي"، الذي سرعان ما اعتبره الإسلاميون ربيعاً يسبق شتاءً إسلامياً، فيما اختلط الأمر على المفكرين والسياسيين، العلمانيين، فضاعوا بين من يعتبره ربيعاً ومن يعتبره خريفاً.
ولأن الانقلاب الأول لا يزال مستمراً، حيث أخرج من باطن المجتمعات العربية، كل أنواع وأشكال التناقضات والصراعات، فقد كف الجميع إسلاميين وعلمانيين عن التنظير في قراءة أبعاد وأعماق الجاري من الأحداث. المهم في كل هذا هو أن الانقلاب الأول، فتح ابواب التاريخ على الزمن، وعلى النتائج والتداعيات، وعلى الأثمان التي يترتب على المجتمعات العربية أن تدفعها قبل أن تشهد استقراراً نسبياً برداءات سياسية مختلفة. اليوم ليس بمواصفات الأمس، وهو من غير الممكن أن يكون نسخة قريبة من الغد، الذي تتلاعب فيه، وتشارك في صياغته قوى كبيرة، متناقضة من حيث المصالح ومتعددة الجنسيات والأهداف.
خلال مرحلة الانقلاب الأول، ازدحمت العواصم العربية، بالتدخلات وبمحاولات العديد من القوى الإقليمية والدولية، الفوز بحصة ما من الكعكة العربية، وكانت كلها مستعدة لأن تدفع اثمان ذلك، لأن الغنيمة ستعوض هذه الخسائر.
اليوم تهب عاصفة رملية من صحراء الجزيرة العربية، عاصفة بدأت من القمم التي استضافتها الرياض الشهر المنصرم، وتتميز بأنها عاتية، حازمة ومستمرة، وتشير إلى انقلاب جذري، يفتح على صراعات جديدة مديدة يحسب كل طرف من أطرافها مقاييس الربح والخسارة، بما يرتد على مجتمعه ونظامه السياسي. يغيب عن هذه العاصفة البعد القومي النهضوي التحرري الوحدوي، ويغيب عنها، أيضاً، البعد الإسلامي السياسي الشمولي، فلم يعد الإسلام يجمع المسلمين الذين تفرقوا إلى جبهات متعادية متصادمة، كما لم يعد الخطاب النهضوي القومي التحرري هو المحرك لكل هذه الحراكات، الانقلاب الثاني يشهد تحولاً أولاً في السياسة الأميركية التي لم تعد تقبل بالانسحاب التدريجي الذي اعتمدته إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، فتتجند للعودة إلى المنطقة، ولكن بدون أن تتكلف الولايات المتحدة الأعباء المادية والمعنوية الثقيلة، التي تكبدتها خلال مرحلتي جورج بوش الابن، وباراك أوباما.
على الآخرين أن يدفعوا ثمن أمنهم واستقرارهم، حتى لو كانت الولايات المتحدة، واحدة من الأطراف التي تساهم في زعزعة وتهديد استقرار وأمن الآخرين. هذا هو حال السياسة الأميركية في العلاقة مع الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي وهذا هو حالها في العلاقة مع الدول العربية التي تبدي استعداداً لدفع الثمن مقابل شراء الدعم السياسي والرضى الأميركي. الخشية أن تتصحر خزائن المال العربي، بدون أن تشتري لنفسها أمناً واستقراراً، وبدون أن ترضى الولايات المتحدة التي تطمع في بلادهم وخيراتهم، وتحول إلى إسرائيل جزءاً منها.
ثمة مغامرة ومقامرة، ينطوي عليه الانقلاب الصحراوي الثاني، إذ قد تتعرض الدول المتبقية لاهتزازات وضربات أوسع وأقوى مما تعرضت له خلال مرحلة الانقلاب الأول، وبدون أن تحصد مقابل ذلك ما يبرر هذه المغامرة، وما يمكن أن يبررها هو الحصول على تسوية للصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي، تضمن تحقيق الحد الأدنى من الحقوق العربية والفلسطينية.
ولو أخذنا قطر مثالاً، فقد اعتمدت خلال الانقلاب الأول ومنذ بداياته الأولى سياسة طائشة، غير مبررة، وتفيض عن إمكانياتها وحاجاتها وراحت تزاحم قوى مركزية على نفوذ كان معلوماً أنها لن تحصل عليه.
بدت قطر وكأنها دولة محصنة من ضربات الإرهاب الذي ساهمت في تنشيطه، ومده، بالدعم اللوجستي والمادي، والإعلامي، فهي دولة محمية بالقواعد العسكرية الأميركية، الأضخم في المنطقة، وهي، أيضاً، تعتقد أنها محصنة اجتماعياً من أية معارضات داخلية ذات وزن.
لم تحسب قطر يوماً حساب هذا اليوم الذي تتعرض فيه لهجمة قوية، من شقيقاتها الخليجيات، ومن عدد آخر من الدول العربية والأجنبية، ولا ورد في حساب قيادتها أنها يمكن أن تخضع لحصار مشدد، وعقوبات فاعلة كالتي تواجهها اليوم. في سابق الأيام، لم تصنف قطر دولياً وإقليمياً وعربياً كدولة راعية وداعمة للإرهاب، رغم علم الجميع بما كانت تقوم به، وها هي اليوم، تندفع في واجهة الدول الراعية للإرهاب والداعمة له، ما يجعل نظامها معرّضا للاهتزاز وربما السقوط بعوامل خارجية، وأخرى داخلية، حيث بدأت تظهر بفاعلية معارضة من ذات العائلة، من جناح أحمد بن علي آل ثاني، الذي يقول إنه تعرض لانقلاب عام 1972، من قبل الجناح الحاكم.
بعض حلفاء الأمس أصبحوا أعداء اليوم، وبعض من ساهموا في خلق، وتشجيع الجماعات الإسلامية التي توصف اليوم على أنها إرهابية، أدركوا أخطاءهم عملياً بدون اعتراف، وتحولوا إلى أعداء شرسين في مواجهة تلك الجماعات قبل ان تدخل إلى حدودها الوطنية.
المشكلة في هذا الانقلاب أنه يستثني إسرائيل كقوة مصدّرة للإرهاب، ولم تتوقف عن ممارسته، وهي الدولة الوحيدة التي ظلت بمنأى عن عمليات الجماعات الإسلامية بكل أنواعها ومسمّياتها.
أما القضية الأساسية فهي أن على العرب، أن يثقوا بأنفسهم وأن يعتمدوا على أنفسهم وإرادتهم الجماعية، ذلك أن من الوهم الاعتماد على الولايات المتحدة، التي أثبتت عبر التاريخ، أنها دولة أنانية، همها الأول مصالحها ومصالح حليفتها إسرائيل، وأنها كما الفكر الإسلامي السياسي لا تؤمن بالشراكة. في خضم هذا الصراع المرير، والمفتوح، يغيب دور الجماهير التي تدفع الثمن، ويغيب دور القوى الديمقراطية والليبرالية والعلمانية التي تلوذ بالصمت، ولا تعرف أين ستقف، وفي هذا الخضم على الفلسطينيين أن يقيموا حساباتهم على أساس مصلحتهم، ونحو استعادة القضية الفلسطينية مركزها، باعتبارها جوهر الصراع في المنطقة ومفتاح السلم والحرب فيها وعليها.