في هذا الشرق لا يقر اللاعبون بهزيمتهم

55
حجم الخط

​نكبة نعم هزيمة لا: لم نسمها باسمها الواقعي الذي يدل عليها، أي باعتبارها واقعة تاريخية هزمنا  فيها. ولكننا بذكاء جمعي وفطري في آن معا، وربما في ذروة الشعور بالصدمة كان قد صدر عن روحنا الباطنية، التي لم تقر او تسلم بهزيمتنا، آثرنا كنوع من الحيلة الدفاعية في الوعي، إلحاقها بعمل او حدث من أعمال الخوارق الطبيعية ما فوق الواقع او تفسير العقل، على غرار النكبات التي تحدثها زلازل او أعاصير مجنونة تحدث هكذا بغتة كغضب من السماء او آلهة قديمة، ولا حول للإنسان والبشر السيطرة عليها وإنما فقط تلاوة هذه التعويذة الدينية ازاءها : عن فضل ترديد "لا حول ولا قوة الا بالله " في مثل هذه الحالة.
والواقع انه في هذا الشرق الساحر الغامض والفاتن والمفعم بالخيال، والملهم للأديان وموطن الرسل كما الأساطير والحكايات، فإنه لا مجال للاعتراف او الإقرار بالهزائم. فلا احد هنا هزم وانما هزم الغزاة الأجانب جميعهم من اغريق ورومان وفرس ومغول وتتار وافرنج وانجليز وطليان وصليبيين وحتى أميركيين في الطبعة المتأخرة، فلا احد يقر في هذا الشرق كما الفلسطينيين والجيوش العربية انهم هزموا في حرب فلسطين العام 1948. ولا عبد الناصر وسورية والأردن هزموا في حرب حزيران 1967. وانما كانت هذه انتكاسة او نكسة سوف يصار لاحقا إلى استيعابها او احتوائها وامتصاصها، ويتضح الآن ان أميركا نفسها قد انتقلت إليها عدوانا واعتبرت ان ما حدث في الأنبار والرمادي هو مجرد انتكاسة. 
وبالمثل لم يقر صدام حسين حتى وهو على حبل المشنقة بهزيمته واصفاً أعداءه بأنهم ليسوا رجالاً. وجرياً على هذا المنوال لم يقر بشار الأسد بهزيمته في الحرب الكونية التي يواجهها منذ اربع سنوات. وقال ان هناك فرقا بين الخسارة في المعركة وخسارة الحرب والمعارك هي كر وفر. وفي صيف العام 1982 وفيما كان عرفات على ظهر السفينة اليونانية مغادرا بيروت، وحين سأله الصحافيون الى اين يا ياسر عرفات انت ذاهب؟ لم يتردد في الإجابة رافعا شارة النصر " الى فلسطين ". 
ان أحدا هنا لا يهزم، ويلخص اللبنانيون هذه الفانتازيا السياسية، بمقولة او قاعدة شهيرة في العمل السياسي "لا غالب ولا مغلوب"، بينما الجزائريون والمغاربة يلخصون هذا الموقف أن الله وحده هو الغالب "الله غالب".

لحظة أخرى من الكشف التاريخي:
مرتين في التاريخ الحديث بادر ملوك آل سعود من أبناء عبد العزيز مؤسس المملكة، الى اتخاذ قرار الحرب تجاه عدو او خصم إقليمي خارجي، وفي كلا المرتين كان ميدان الحرب هو اليمن. المرة الأولى ضد عبد الناصر حين تدخل أواسط الستينات بجيشه في اليمن لدعم ثورة عبد الله السلال ضد الإمام بدر، والمرة الثانية في هذه الأيام ضد طموحات إيران التي تدعم من وراء الستارة تحالف الحوثيين والرئيس اليمني المخلوع علي عبد الله صالح. لقد انقلبت وجهة التدخل والتحالفات لكن الثابت في الموقف السعودي في كلتا المرتين، ان الملك فيصل في المرة الأولى والملك سليمان في هذه المرة إنما تصديا لقوتين إقليميتين كبيرتين في ذروة صعودهما وقوتهما. مصر الناصرية في الستينات وإيران كقوى إقليمية عظمى في هذه الأوقات.
انها لحظة أخرى من لحظات الكشف النادرة ولكن العنيفة وغير المستترة والتي ما برحت تعاود التكرار في منطقة لم تحسم فيها الصراعات القديمة، والتي برهنت فيها هذه الصراعات على انها لم تمت بتقادم السنين او خبت جذوتها مع الزمن: تقدميون جمهوريون راديكاليون ورجعيون. حضر وصحراء، عثمانيون وفارسيون، سنة وشيعة، إسلاميون إصلاحيون معتدلون ودولة إسلامية صاعدة وآخذة بالتمدد تكاد تبتلع سورية والعراق معا، ثورات شعبية تبدو كما لو انها ترسم ربيعا للعرب يعقبها ثورات مضادة، حروب دينية وأخرى مذهبية وطائفية وإقليمية، وأخرى موازية لها أممية. وكأنما مصير العالم يرتسم مجددا من هنا، وليس من "السهل الأوراسي" في القرم على حدود روسيا وأوكرانيا وسراييفو القديمة، وانما هنا من خليج عدن ومضيق باب المندب وهرمز ومدينة تدمر القديمة عاصمة مملكة زنوبيا، وعلى حواف بغداد من الرمادي وبينهما كربلاء. وسلسلة جبال القلمون والتي تفصل سورية عن لبنان.
قبل فوات الأوان:
سلاما أيها الشرق العصي عن الفهم والإدراك، ورأي هنري كيسنجر العالم بالنزاعات، إنما هي قصة الحروب الدينية والمختلطة في أوروبا القرن السابع عشر، قبل التوصل الى تسوية بنسلفانيا التاريخية التي بلورت مفهوم توازن القوى في العلاقات الدولية، والتي قادت ومهدت الطريق لنشوء وسيادة الدولة الحديثة. فهل لهذا السبب قد اقروا في تلك الأزمات القديمة ان معيار النصر والهزيمة في الحرب إنما يتوقف على إرادة القتال والاستعداد لمواصلة القتال على حد سواء. ولم يقرروا غداة العام 1948 ولا اليوم التوقف عن مواصلة الاستعداد للقتال، وحيث تبدو الأزمات المستعرة في عموم المنطقة كما لو انها امتداد لأُم الأزمات وهي الأزمة الفلسطينية. 
فهل يبدو الآن ان كل يوم يمر دون التوصل الى سلام تاريخي بين الإسرائيليين والفلسطينيين، سوف يجعل من ثمن التوصل الى هذا السلام لاحقاً باهظاً لدرجة ان إسرائيل لن يكون بمقدورها دفعه؟ وحيث النيران التي تشتعل في الجوار ليس الا مسألة وقت وتصل الى هنا الى البيت الإسرائيلي. وكانت أُم أخطاء الحركة الوطنية الفلسطينية الأولى زمن الحاج أمين الحسيني والقيادات التقليدية، انها لم تسع الى ضم واحتواء اليهود الفلسطينيين في إطار الحركة الوطنية الفلسطينية المطالبة بالاستقلال، وبذلك كانت بهذه المبادرة ستسحب البساط من تحت أقدام بريطانيا الاستعمارية والحركة الصهيونية، اذا ما أدركنا الآن ان وعد بلفور كان موجها ليس ليهود فلسطين وإنما ليهود أوروبا.
 واليوم لعله في أُم أخطاء الإسرائيليين انهم يقابلون الحرائق المشتعلة في المحيط بأعواد الثقاب، بدلا من ان يحلوا الموضوع مع الفلسطينيين بعيدا عن هذه الترهات الأيدلوجية أو الاعتقاد بإمكانية ان يكون غالب ومغلوب او منتصر ومهزوم، في منطقة لم يعترف اللاعبون فيها مرة بمنطق الهزيمة وإنما النصر. وليس أمام إسرائيل لكي تنتصر وتتحاشى الهزيمة إلا ان تعود أدراجها الى اتباع تقاليدها الماضية، أي بالعودة الى الاندماج في نظام هذا الشرق كأحد المكونات التي طالما كانت جزءا من نسيجه وفسيفساء قبائله.