أن تصطف للصلاة في باب الأسباط لا يمنحك الجرأة أن تقتحم خصوصيات الناس هناك لتقول لهم: من؟ أين؟ لماذا؟ ماذا؟ متى؟ ليس لأنك جبان، بل لأن الأمر ليس في مكانه، بالتالي أنت تقف بين جموع ضخمة هبت على قلب رجل واحد من كل صوب وحدب للانتصار للأقصى والقدس، وتلك الإجابة عن الاستفهامات الخمسة، ولا يجوز أن تحمل أكثر مما تحتمل، ليحددوا من كان ومن لم يكن.
فقد يكون أحدهم على يمينك طبيباً معروفاً وقد يكون على يسارك تاجراً من خان الزيت قد يكون حكى لك حكايته عشرات المرات عن سوء الوضع التجاري وضعف الإقبال التجاري، وهناك من هو طالب في إحدى الجامعات، وهناك عدد لا بأس به من العمال الذي أنهوا فترة عملهم وجاؤوا لأداء صلاة المغرب والعشاء.
ولكنك تستطيع أن تقول: تلك هي القدس؟
القدس تاريخياً هي كذلك ولا جديد، لم تقع واقعة في القدس إلا كانوا لها، وبها كانوا يتركون متاجرهم مشرعة وبسطاتهم ومدارسهم ويذهبون صوب الأقصى وصوب حماية بيت استولى عليه المستوطنون، ووقفتهم مع الأقصى حكاية طويلة، مع فارق بسيط أن مرجعيتهم كانت حاضرة وهم مجمعون عليها. اليوم وفي تلك الواقعة لم تكن هناك مرجعية واضحة المعالم وكان أثر الأمر واضحاً في الأيام الثلاثة الأولى، حيث كان الأمر وجهة نظر حتى أصدر المفتي فتوى مفادها بأن: الداخل عبر البوابات الإلكترونية للصلاة تعتبر صلاته باطلة، وباتت القدس مدرسة إعداد قيادات وكوادر دون أسوار وليست نظامية كما كانت على مدار السنوات السابقة.
في القدس اليوم حضر الجمع ووقف على قلب رجل واحد، إلا أن مؤسسات القدس لم تحضر، وتلك معضلة، فالمؤسسات الوطنية والنقابية في القدس تحتاج إلى إعادة فحص دون قرارات فوقية لإظهار الأمر وكأنه اهتمام.
فصائل منظمة التحرير الفلسطينية ليست غائبة، إلا أن حضورها لم يكن بزخم حجم وتأثير واسم الفصيل، من يستطيع أن يجزم ويحكم ويحاكم أن حركة "فتح" غائبة.. ألم يكن بين الجمع فتحاويون من سلوان ووادي الجوز والعيسوية وشعفاط، ألم يقف الفتحاويون بشكل واضح وبارز يحثون على الوقوف وأداء صلاة المغرب والعشاء في باب الأسباط ،أليس هذا فعلاً فتحاوياً منظماً وواضحاً للعيان، لكن الفصائل اختارت أن تختبئ خلف الشيوخ ليس لابتكار مسمى العمائم أو المرجعيات الدينية غير الدارج بل لخصوصية الوضع في القدس وسهولة الانقضاض الاحتلالي على الفعل التنظيمي البارز.
هل نحتاج مراجعة؟
إذا أردنا أن نتباهى بالقدس ونصر على أنها زمردة فلسطين وقلبها، علينا أن نراجع طبيعة علاقتنا بالقدس، ونراجع تنميط المقدسي أنه عبء على رام الله والبيرة وبيت لحم بمجرد أن نرى سيارة بنمرة صفراء نفترض أن المشاكل بدأت، وتنميط المقدسي أنه تأقلم مع إجراءات بلدية الاحتلال، ولا نستطيع أن نعي أن المقدسي فرصة صمود وثبات ورافعة في القدس، أن المقدسي الباقي في دكانه ولا يستفتح هو فرصة يجب أن نؤسس عليها، المشافي في القدس صنعت الفرق في تلك الواقعة ولكننا لم نلتقط هذا الحضور، المسارح والمراكز الثقافية في القدس التي تؤصل للثقافة الوطنية فرصة وليست عبئاً.
تفذلكنا على تجار وصناعي القدس وقلنا لهم: إن منطقة قلنديا الصناعية مستوطنة ومن ثم أخرجنا فتوى أنها منطقة التوسع الوحيدة لهم تجارياً وصناعياً، وانهمرت بعض الدموع دون عمق على دكان أغلق في البلدة القديمة أو شارع صلاح الدين، وأقصى ما فعلناه كتابة قصة صحافية والسلام، وقصص الديون العنكبوتية التي دمرت متاجر ومحلات وأثرت سلبياً على القطاع التجاري.
المراجعة الحقيقية أن نعيد الاعتبار لمؤسسات القدس وقطاعها التجاري والصناعي ومؤسساتها الأكاديمية والثقافية ومجمع النقابات المهنية والإعلام إذا أردنا أن نستخلص العبر، وفي قلب ذلك كله محافظة القدس كعنوان كان حاضراً بقوة في تلك الواقعة.