منذ عصر الأنسنة حتى مطلع الألفية الثالثة، تطور العلم عبر ثلاث مراحل أساسية، حاول العلماء في كل مرحلة وضع تصورات عامة للكون، وتفسير الظاهرات الطبيعية، ومساعدة الإنسان على التنبؤ، وتحقيق احتياجاته وحل مشكلاته (وتلك هي وظائف العلم الكبرى).
في المرحلة الأولى استند إلى التصورات «الأسطورية»، التي كانت تعتبر الكون مسرحا لفعل الأرواح والآلهة والقوى الغيبية.
وفي الثانية استند إلى التصورات «الفلسفية»، التي كانت تعتبر الكون نتاجاً لمبادئ العقل والمنطق، ومرجعيتها الفلسفات الجمالية والأخلاقية (مثل كون أفلاطون، وكون الفارابي)، وأخيرا مرحلة التصورات «العلمية» التي تعتمد فقط على الرياضيات والنظريات الفيزيائية والكيميائية وغيرها من العلوم الطبيعية.
كانت التصورات الفلسفية بدأت أيام اليونان، مشبعة بفلسفة «أرسطو» الذي فهم سلوك الطـبيعة بقياسها على سلوك الإنسان والحيوان، وقد سيطرت على هذه الفلسفة (التي امتدت حتى القرون الوسطى) مبادئ الأفضلية: الدائرة على المربع، والأعلى على الأسفل، واليمين على اليسار... وسادت فيها مصطلحات: الخير والشر والقوة والضعف والخلود والفناء.
في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية (800 - 1100م)؛ استفاد العلماء العرب والمسلمون من الحضارات اليونانية والرومانية والفارسية، وترجموا أعمالها، وحققوا أهم الاختراعات والاكتشافات في الرياضيات والجبر والطب والفلك والفلسفة والكيمياء، والبصريات.. والتي كانت الأساس الذي قام عليه عصر النهضة وعصر التنوير.
في هذه الحقبة ظهر كل من: الكندي، والخوارزمي، وجابر بن حيان، والجاحظ، والراوندي، والرازي، والفارابي، وابن سينا، وابن الهيثم، والبيروني، وابن المقفع.. وابن رشد، وابن خلدون (في مرحلة لاحقة)... بالرغم من الجدال المحتدم حول تلك الشخصيات، وأصولهم «غير العربية»، والتشكيك بإسلامهم، واتهام بعضهم بالهرطقة والإلحاد، واضطهاد وقتل معظمهم.. إلا أنهم في ظل الدولة الإسلامية (العباسية، وفي الأندلس) وضعوا لبنات أساسية مهمة في مدماك العلم، وأوقدوا مشعل الابتكار الذي تدين له أوروبا بالفضل.
في القرن السادس عشر، بدأت إرهاصات مرحلة جديدة بالغة الأهمية، على يد «كوبرينكس» الذي تمرد على المفاهيم الكنسية السائدة، وقال بكروية الأرض، وجرّد الكوكب من مجده الذي كان ينصبه سيداً للكون، وجعل منه مجرد تابع للشمس، وقد أسس بهذه الأفكار لمرحلة جديدة، أهم روادها «غاليليو» و»نيوتن»، والتي امتدت حتى أواخر القرن التاسع عشر، وقد امتازت هذه المرحلة بسيطرة مفاهيم الفيزياء الكلاسيكية القائمة على الفكرة الميكانيكية، وكانت الظواهر الطبيعية تفسر بقياسها على سير الآلات البسيطة كالعجلة والرافعة، وقد شملت علوم الكهرومغناطيسية والحرارة والتفاعلات الكيميائية وغيرها، وقد أخضع كل شيء لقانون نيوتن في الحركة والجاذبية.
وبعد ذلك مباشرة أتت مرحلة العلم الديناميكي؛ بدأت بإيجاد تفسيرات عجزت عنها الميكانيكا الكلاسيكية وتُوجت بالنظرية النسبية.. وكانت أبحاث «خرشوف» و»ميكلسون» و»مورلي» و»ماكس بلانك» وغيرهم هي التي مهدت الطريق أمام «أينشتاين» لإطلاق نظريته النسبية.
إذن، هكذا تطور العلم: انحسرت الأسطورة، ثم ظهرت الفلسفة المثالية، ثم تراجعت الفلسفة لصالح النظريات العلمية.. ولكن العديد من تلك النظريات العلمية وخاصة في البدايات كانت تعتمد على الحدس والحكمة وعلم الكلام، والمنطق.
وكانت أدوات المعرفة المتاحة وسبلها المتبعة تخلط أحيانا بين ما هو علمي، وما هو غير علمي؛ فتخلط ما بين الفيزياء والأساطير، وبين المثيولوجيا والميتافيزيقا؛ وبين الكيمياء والخيمياء؛ وبين علم الفلك والتنجيم، وبين الباراسيكولوجي وتقمص الأرواح وتلبيس الشياطين، وبين ما عجز العلم عن تفسيره والسحر والقوى الماورائية، وهذا ليس بغريب، فالقياسات الدقيقة لم تكن متوفرة في تلك الأزمنة القديمة.
وكذلك كانت تلك النظريات تبدو أحيانا مثقلة بالتناقضات والاستحالات، وتعتريها بعض الثغرات القاتلة، ما كان يسمح بتقدم الفلسفة المثالية وأحيانا الخرافات لتملأ تلك الثغرات، ولكن تقدم العلوم وتطورها كان يجيب عن الأسئلة المحيرة، ويبدد الغموض، ويكشف المجهول.
ولم يكن ممكنا للعلم آنذاك تجاوز كل المعضلات، لأن أدوات المعرفة كانت محدودة، فالنظام الرياضي العشري مثلاً الذي جاء عن طريق الهندوس يرجع تاريخه للعام 700 م. وإشارات الزائد والناقص في الرياضيات والجبر ظهرت في القرن الثاني عشر الميلادي مع علماء المسلمين، أما الساعات الدقيقة التي تحسب الوقت بأجزاء ضئيلة من الثانية، والموازين التي تقيس أجزاء بالبليون من الغرام، والأجهزة التي تفحص كل شيء مهما بلغت دقته أو بعُدت مسافته فلم تظهر إلا في العصر الحديث.
وفي هذا السياق نشأ ما يُعرف بفلسفة العلم، أو دراسة المعرفة «الأبستمولوجيا»، وهو العلم الذي يعنى بدراسة الأسس الافتراضية والفلسفية، وكل ما تتضمنه العلوم الطبيعية، كالبيولوجيا والفيزياء والعلوم الاجتماعية والإنسانية والسياسية.. والتحقق من صحة المقولات العلمية والنظريات الفلسفية..
إذا؛ في القرون الثلاثة الأخيرة جرت اختراقات جوهرية في فضاء العلم، شهدت العديد من أهم الاكتشافات والاختراعات والنظريات العلمية والفلسفية، قلبت كل شيء رأسا على عقب، وفتحت آفاقا لم تكن البشرية تتصور حتى وجودها، فخلال هذه الحقبة التي تعتبر الأهم في تاريخ وجود الإنسان على الأرض من الناحية العلمية، صاغ «نيوتن» قوانين الجاذبية، وجاء «دارون» بنظرية النشوء والارتقاء، واكتشف «باستور» وجود الميكروبات، واستدل «مندل» على علم الوراثة، واخترع «أديسون» المصباح الكهربائي، وفسر «ماكسويل» طبيعة الضوء الكهرومغناطيسية، واكتشفت «مدام كوري» الراديوم، واكتشف «فيلمينج» البنسلين، وطرح «أينشتاين» نظريته النسبية، وفسر «فارداي» الموجات الكهرومغناطيسية، وأسس «ماكس بلانك» الفيزياء الكمية، واقترح «نيلس بور» نموذجا لفهم البنية الذرية، واخترع «ماركوني» الراديو واللاسلكي، وصمم «كيرتشهوف» الدوائر الكهربائية، واخترع «جراهام بيل» الهاتف، وتمكن كل من «واتسون» و»كريك» من التعرف على جبلة الحياة الأساسية DNA في أواسط القرن العشرين، ثم أكد كل من «بزنياس» و»ولسون» على نظرية الانفجار العظيم بعد ذلك بعقد ونصف العقد، وفي أواخر التسعينيات أطلق العلماء تلسكوب «هابل» الذي اكتشف عوالم تفوق بكثير ما كان يظنه «أينشتاين» كل الكون.
في نهاية القرن العشرين، أخذ العلم يحقق قفزات كبرى، حيث بدأ عصر التكنولوجيا الحديثة، والاختراعات المدهشة، وثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات..
وهكذا، بُنيت الحضارة الإنسانية، اعتمدت كل مرحلة على سابقاتها، وكان لكل أمة نصيبها ومساهمتها.. الأمة العربية كان لها إسهامها المشرق في مرحلة ما، لكنها ومنذ تسعمائة سنة، دخلت مرحلة الانحدار والتراجع.. وهي اليوم، لا تصدّر للعالم سوى اللاجئين، والانتحاريين.