نصر أكتوبر .. هزيمة علمانيي إسرائيل ونهضة الاستيطان..!

أكرم عطا الله.jpg
حجم الخط

ليس المهم ما حققته القوات المسلحة المصرية والسورية في حرب أكتوبر المجيدة بالرغم من أنه يعتبر معجزة بمقاييس اليوم من تقدم مفاجئ على جبهات القتال وقدرة القوات المصرية على الاقتحام المدهش لخط بارليف الذي اعتقدت إسرائيل أنه سيكون عصيا على الاختراق من شدة التحصين، لكن من قرأ وسمع عن بطولات اللحظة التاريخية آنذاك وأبطالها يعرف ببساطة أن روح الانتقام للكرامة العربية كانت الدافع وراء كل أبطال الحرب من أصغر جندي حتى صاحب القرار.
لكن المهم في أكتوبر 73 هو قرار الحرب الشجاع الذي اتخذه الرئيس الراحل أنور السادات خاصة بعد هزيمة حزيران وقدرة إسرائيل الوليدة آنذاك على هزيمة الجيوش العربية واقتطاع مساحات هائلة من الأراضي العربية سواء ما تبقى من فلسطين الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة أو الجولان السوري أو تلك الصحارى الهائلة من أراضي سيناء ما أحدث قدرا من الخوف والتردد لدى صانع القرار العربي وهذا ربما ما أدركته إسرائيل ومبرر فشل استخباراتها العسكرية في توقع الحرب وخصوصا أنه جرت قبلها مناورتا حرب على القناة وكانت ساعة الصفر الساعة الثانية من 6 أكتوبر العاشر من رمضان هي المناورة الثالثة التي أعلن عنها لتقابلها إسرائيل بسخرية كما سابقاتها ولم تعرف أن القرار قد اتخذ.
كانت هزيمة العرب العام 67 هي الإعلان الحقيقي لدولة إسرائيل لأن قيامها العام 48 لم يطمئن يهود العالم للهجرة والاستقرار فيها وسط هذا المحيط المعادي. ولكن الانتصار الذي حققته إسرائيل حولها إلى حقيقة قائمة عصية على الإبادة وأن الدولة ستستمر، ما دفع بمجموعات المهاجرين إلى القدوم لإسرائيل ومن هنا بدأت الدولة تثق بنفسها وكذلك المهاجرون وتدفق الاستثمارات والتي عكست نفسها على النظام السياسي في إسرائيل ليصعد حزب التجمع الحاكم آنذاك من 45 مقعدا في انتخابات 1965 إلى 56 مقعدا في انتخابات 1969 ما يشبه التفرد في حكم الدولة.
لكن حرب 73 كانت لها نتائج معاكسة على الداخل الإسرائيلي فما اعتبر هزيمة لإسرائيل وارتباك صورة القيادة التي كانت تقود الحرب واهتزاز صورة الجيش الذي كان قد تحول بعد انتصار 67 إلى ما يشبه العجل المقدس وبدء انزياح إسرائيل نحو اليمين بانكسار صورة اليسار والجيش العلماني لتشهد انتخابات كانون الأول 73 والتي أجريت بعد الحرب بشهرين صعوده لحزب «جاحال» وهو نواة حزب «الليكود» من 26 مقعدا في انتخابات 69 ليحصل على 39 مقعدا في انتخابات 73 كخطوة أولى نحو انزياح أكبر سمي الانقلاب في انتخابات 77 والذي تلقى حزب التجمع اليساري فيها هزيمته الكبرى ليهبط إلى 32 مقعدا ويصعد «الليكود» إلى 43 مقعدا ليشكل مناحيم بيغن زعيم الحزب اليميني آنذاك حكومة اليمين لأول مرة في تاريخ الدولة منذ إقامتها.
لقد كسرت حرب 73 صورة اليسار والجيش وكانت قد أحدثت ما يكفي من التغيرات في المجتمع الإسرائيلي لكن التغيير الأبرز هنا في ثقافة الفكر  الإسرائيلي تجاه الصراع والعلاقة مع الأراضي الفلسطينية. فبينما كانت تعتقد إسرائيل وقادتها في ذروة الاحتفال باحتلال الأراضي العربية العام 67 باعتبار الأراضي المحتلة مادة للتسوية السياسية على طريق إعادتها «هكذا قال إسحق رابين رئيس أركان الحرب» وكذلك إيغال ألون وزير العدل آنذاك الذي تقدم بخطة «للاستيطان والتسوية» تقوم على بناء مستوطنات للتسوية الدائمة في غور الأردن وجبال الخليل والقدس.
بعد 73 بدأت القوى اليمينية الأكثر تطرفا في إسرائيل تطل برأسها مع بداية انطفاء اليسار والجيش لتظهر حركة «غوش إيمونيم» بكل قوتها وهي الحركة التي عملت بنشاط بعد العام 74 والتي شكلت النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية مؤمنة بأرض إسرائيل الكبرى حتى في ظل وجود حكومة العمل بعد 74، وهي الحركة الوليدة لحزب «المفدال» آنذاك والذي يشكل حاليا العمود الفقري لحزب «البيت اليهودي» مع اكتمال انزياح إسرائيل أكثر نحو اليمين.
تلقت الحركة آنذاك تأييدا سياسيا من شخصيات سياسية وأعضاء كنيست مثل أرئيل شارون وغينولا كوهين التي بكت يوم توقيع أوسلو قائلة، «هذا يوم أسود في تاريخ إسرائيل» وغيرهم لتبدأ حقبة الاستيطان التوراتي في الضفة الغربية والذي قضى مع الزمن على أي أفق لحل دولتين أو لنهاية الوجود الإسرائيلي في الضفة وفي نفس الحقبة تشهد الضفة الغربية هجرة 100 ألف فلسطيني بين أعوام 74 ـــــ 80 أي إحلالا جديدا يشبه إلى حد ما إحلال العام 48 ولكن بشكل مختلف.
إذاً، تنهزم إسرائيل في حرب 73 وتتلقى صدمة تترك تداعياتها على الوعي الإسرائيلي وتنكسر صورة الجيش فيتراجع اليسار العلماني ويتقدم اليمين الاستيطاني لتسجل سنوات السبعينيات مرحلة جديدة في تاريخ إسرائيل تعكس نفسها على طبيعة الصراع بين الفلسطينيين والدولة العبرية من صراع سياسي بدأ يأخذ بعدا يمينيا دينيا إلى حد ما ويمكن أن نقف أمام هذا التحول في سياق قراءة الحكم في إسرائيل، ففي العقود الثلاثة الأولى حكمها اليسار بلا منافس وبلا شريك حتى، ثم تعادلت الكفتان في العقدين اللاحقين فشهدت سنوات الثمانينيات حكومات الائتلاف بين اليمين واليسار حتى العام 96 وانتخاب وريث اليمين نتنياهو ومنذ ذلك التاريخ أي العقدين الأخيرين تصبح إسرائيل يمينية بلا منافس وبلا شريك أيضا.
يتصادف استيلاء اليمين على الحكم في منتصف التسعينيات مع مرحلة جديدة من العلاقة بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي ما بين سلام نظري كان قد وقعه بقايا اليسار المتهالك وحقيقة صعود وسيطرة اليمين الفتي على الحكم في إسرائيل، هذا اليمين الذي اعتبر أوسلو منافيا لروح اليهودية ويقضي على كل أحلامها وينبغي تدميره وقد نجح فعلا. وبعد مرور عقدين على سيطرة هذا اليمين لم يبق في الضفة والقدس ما يمكن التفاوض عليه لأن الأمر الواقع الذي جسدته حكومات اليمين بالتدريج في العقدين السابقين أكثر تحققا من أي اتفاقيات.
يمكن القول إن ما تحقق في العاشر من رمضان العام 73 على جبهات القتال رغم عظمة الإنجاز التاريخي والأساطير التي سجلها المقاتلون إلا أن ما أحدثته في الداخل الإسرائيلي كان وبالا على الشعب الفلسطيني فيما نحن العرب لم نستطع الاستثمار والبناء على ما تحقق .. كيف كان ذلك؟ سؤال متروك للتاريخ .. أن ننتصر في الميدان فندفع الثمن بالاستيطان ..!