مثلما انسحب نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة، عام 1978 احتجاجا على ما سماه تدخل المنظمة في شؤونها الداخلية؛ بادرت الولايات المتحدة للمرة الثانية في تاريخ المنظمة إلى الانسحاب من هذه اليونسكو، بذريعة انحيازها ضد إسرائيل.
وبتشجيع أميركي، انسحبت إسرائيل، ونطق بنيامين نتنياهو بالكبيرة، ليجعل نفسه أعرف بالتاريخ، من المنظمة التي قام على تأسيسها عام 1945 علماء دوليون مرموقون، قائلا بوقاحة إنها باتت “مسرحا للعبث، تزوّر التاريخ بدل الحفاظ عليه”.
مشكلة الولايات المتحدة وإسرائيل مع اليونسكو أنها في الثقافة وفي سعيها لتكريس أيديولوجيا كونية ذات نزوع إنساني، تشبه الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهذه في السياسة، تعكس إرادة الأمم عند التصويت. فلا “فيتو” لأميركا أو غيرها، وهذا ما جعل الولايات المتحدة تتخلف عن سداد إسهامها في موازنة المنظمة، فتراكمت عليها الديون حتى بلغت نصف مليار دولار، كانت ستسددها بسهولة، لو أن “حق النقض” الذي تأسس لواشنطن في مجلس الأمن، قد تأسس لها في مجلس اليونسكو.
كانت الولايات المتحدة، قد خفضت عضويتها في المنظمة، ردا على قرارها ضم فلسطين إلى عضويتها. والمثير للاستغراب، أن واشنطن التي تطرح نفسها ذات أهلية لتقديم مقترحات لتسوية الصراع العربي الصهيوني، استكثرت العضوية على شعب فلسطين، صاحب التراث الثقافي العالمي الغني، الذي يضم شواهد وآثار المسلمين والمسيحيين.
معنى ذلك أن القناعات في الأساس، إقصائية وإمبريالية، وما الحديث عن سلام مرتجى، إلا نوعا من ثرثرات السياسة، وكذباً مفضوحا. بل إن التحاق الولايات المتحدة باليونسكو أصلا وفرعا، كان لغايات الصراع وليس لغايات التعاون بين الأمم في مجالات اختصاص المنظمة.
فالأميركيون لا يريدون تعزيز روح السلام من خلال رفع مستوى العلاقات الدولية، وإعلاء روح التسامح بمفاعيل المعرفة المتبادلة بين الشعوب على أصعدة التاريخ والثقافة والعلوم، والتمكين للقانون ورفع شأن حقوق الإنسان ومبادئ الحريات الأساسية.
الانسحاب الأميركي الأول، من اليونسكو عام 1984 كان بذريعة انحياز المنظمة للاتحاد السوفياتي وبزعم معاداة اليونسكو للغرب. ذلك جاء ردا على الإصلاحات التي أدخلها المربي والمناضل الاستقلالي السنغالي أحمد مختار إمبو.
فقد كان الرئيس الأميركي رونالد ريغان آنذاك، يريد أن يكون خيار المنظمة، هو الوجهة الثقافية الأميركية وتقاليدها، والمنحى الموالي للغرب تماما. فالرجل القادم، إلى البيت الأبيض، كممثل سينمائي، من ستوديوهات “هوليوود” ليصبح رئيساً للولايات المتحدة، كان يرغب في أن تتولى سينما رعاية البقر، رعاية الأمم ثقافياً.
حكاية واشنطن مع اليونسكو لا تخلو من مفارقات. الأولى تحدثت عن ضرورة تغليب ما تسميه القيم الغربية وعن ضرورة القيام بإصلاحات. لكن واشنطن، عندما زرعت ذات مرة، في المنظمة، موظفاً أميركياً يُدعى بيتر سميث، ليشغل منصب مسؤول التعليم فيها؛ أوقف الرجل موازنة لمحو الأمية في العراق وفلسطين وموريتانيا.
فلو لم يكن أوقفها، لكان تنظيم داعش مثلاً قد خسر فيما بعد جزءا معتبرا من الأميين في العراق. غير أن الأطرف، هو أن الذي جاء ليكون مسؤولا عن التعليم وزرع القيم الأميركية؛ ضبط متلبسا بالسرقة في اليونسكو ما جعل الحديث القيم محض رياء ولغايات سياسية مذمومة.
وبالطبع، لا يخلو منبر اليونسكو من تأثيرات سلبية، لمفاعيل وحسابات معقدة أو سياقات مريبة، تنعكس في مناسبات التصويت، ولا سيما عند اختيار الأمين العام للمنظمة. فقد جاءت نتائج التصويت الأخير مثيرة للاستغراب.
فبالنسبة لمصر، ربما لم يكن هناك جهد ثقافي معرفي يعزز الجهد الدبلوماسي، لتعزيز فرص مرشحتها لمنصب الأمين العام. كان مهماً أن يقال لمندوبي الأمم، إن مصر والعراق والهند، هي الدول صاحبة الفضل تاريخياً، في تغيير روح الميثاق التأسيسي للمنظمة، الذي صيغ في العام 1946 إذ نقلته من الخضوع التام للمفاهيم الغربية، إلى صيغة أقرب إلى الأيديولوجيا الأممية التي تتحسس مناخات العالم النامي.
أما حكاية معلم التاريخ الرديء، المتطفل على المعرفة ومعاند الثقافة وروح التعاون بين الشعوب، أي بنيامين نتنياهو رئيس وزراء دولة الاحتلال العسكري الوحيد في العالم، فهي مثيرة للدهشة. فهو يتهم اليونسكو بتزوير التاريخ، دون أن يشرح أي تاريخ ذاك الذي تزوره منظمة التربية والثقافة والعلوم.