خمسون عاماً من العمل الإسلامي: أبو مرزوق كما عَرفتُه

thumb (4).jpg
حجم الخط

 

أنْ تكتبَ عن أخٍ وصديق تعرفه منذ الصغر، وتشاركه الالتزام التنظيمي في مرحلة الشباب، وتصاحبه بعد ذلك في كل المراحل الحياتية؛ سنوات الدراسة بالجامعة في قاهرة المُعِز، ثم العمل بالإمارات، ثم الدراسة والعمل والجوار وقيادة العمل الإسلامي في معظم سنوات وجودنا بالولايات المتحدة الأمريكية.. لا شك أنها مسيرة طويلة قاربت الخمسين عاماً، حيث لم أعرف خلالها لأخي موسى أبو مرزوق إلا فضائلُهُ ونعماؤه، وجِدّه واجتهاده لخدمة مشروعنا الإسلامي، وعمله الدؤوب في قيادة نشاطنا الفلسطيني، وخاصةً خلال فترة وجودنا في أمريكا، وترأُّسه للمكتب السياسي لحركة حماس عام 1992، أو بعد ترحيله منها في 4 مايو 1997.

على طول هذه المسيرة ومحطاتها الممتدة من غزة إلى مصر، ومن مصر إلى الإمارات، ومن الإمارات إلى أمريكا، ثم الاعتقال والسجن في نيويورك والترحيل بعد عامين إلى الأردن، وبعد ذلك الإبعاد إلى سوريا، ثم الرحيل عنها بعد الثورة والعودة إلى مصر من جديد، ثم الإقامة والتنقل بين قطر وتركيا، كان د. موسى عَلَماً فلسطينياً ومناضلاً وطنياً، وقيادياً إسلامياً له مكانته وتاريخه.

مشوارٌ تخلّلته الكثير من المواقف والحكايا والمشاهد والصور، حاولتُ اختصارها في عناوينَ حركيةٍ وسياسية، كان فيها د. موسى أبو مرزوق يمتلك زمام المبادرة، واحتضان المشهد الفلسطيني وتصدُّر أحداثه.

أبو مرزوق: بدايةُ الالتزامِ الحركيّ

قد تكون جمعتني لقاءاتٌ كثيرة بالأخ موسى أبو مرزوق في السنوات التي سبقت التزامنا بالحركة الإسلامية، وذلك في حَواري مخيم الشابورة أو في الملعب البلدي، حيث كُنا جميعاً نعشق كرة القدم، فهي لعبتنا المفضلة، وتسليتنا ورباطنا بعد انتهاء اليوم الدراسي، ولكن ذاكرتي لا تملك تفاصيل كل تلك المرحلة.

قبل نكسة عام 67، كان معظم الشباب من المعجبين وطنياً بالرئيس عبد الناصر (رحمه الله)؛ الزعيم الخالد للأمة، وبطل القومية العربية، كما كانت تُطلِق عليه وسائل الإعلام المصرية.

ولكن بعد هزيمة العرب المُذلّة في حرب 1967، ووقوع باقي الأراضي الفلسطينية تحت الاحتلال الإسرائيلي، إضافةً إلى سيناء والجولان، حدث تحولٌ كبيرٌ في اتجاهات الشباب، فقد شهد قطاع غزة حِراكاً غيرَ مسبوقٍ باتجاه المساجد، من حيثُ عمارتها وإعمارها.. وقد بدأت هذه العناصر الإسلامية في ممارسة نشاطها العلني من داخلها، حيث شهدت المساجد حضوراً لافتاً للنظر، وأخذ يتقاطر عليها الشباب بمختلف أعمارهم للاستماع إلى الدروس والعِظات، والمشاركة في أنشطتها الدينية والثقافية.. كان الشيخ أحمد ياسين (رحمه الله)؛ أحد أبرز الدعاة الذين انشدَّ لهم الشباب في المساجد، ويمكن القول إن تنظيم أول مجموعة شبابية على مستوى القطاع تمَّ عام 1968، حيث كان كلانا (أنا وموسى) من بين طلائع تلك المجموعة.

بعد احتلال قطاع غزة عام 67 بعدّة شهور، فتحت المدارس أبوابها، إلّا أنّ العديد من الطلاب قاطعوا العودة إليها، باعتبار أن "لا تعليم تحت الاحتلال"، وكان الطالب موسى أبو مرزوق من بين هؤلاء، حيث درس الصف الحادي عشر في بيته (نظام منازل).. وفي السنة النهائية من مرحلة الثانوية العامة، توجه الأخ موسى لمقابلة الشيخ أحمد ياسين طالباً منه الرأي والمشورة فيما يتعلق برغبته في السفر إلى مصر والدراسة فيها.. أشار عليه الشيخ أحمد (رحمه الله) بالحرص على الالتحاق بالكلية الحربية، وذلك لحاجة في نفس الشيخ أنْ يراه ضابطاً تنتظره مهماتٌ وطنيةٌ عندما يعود إلى غزة.. في مصر، درس الأخ موسى الثانوية العامة، وحاول جهده للالتحاق بالكلية الحربية، إلّا أنّ قراراً صدر – آنذاك - بإلغاء مساواة الفلسطينيين بالمصريين مما حرم أبو مرزوق من تحقيق أمنية شيخه أحمد ياسين، فالتحق بكلية الهندسة جامعة حلوان.

في القاهرة: الدراسةُ تجمعُنا من جديد

انتقل الأخ أبو مرزوق للقاهرة في وقت كان فيه النشاط الإسلاميّ في الجامعات المصرية على أوجِه، ولعله كان الطالبَ الفلسطينيَّ الوحيد الملتحي في الجامعات المصرية عام 1971.

كان من حُسن حظنا أنّ سنواتِ السبعينيات شهدت انفراجاً في العلاقة بين الرئيس السادات والإخوان المسلمين، حيث تمَّ الإفراجُ عنهم من السجون والمعتقلات، وسمح لهم النظام بالعودة إلى ممارسة أنشطتهم الدعوية والتربوية في المساجد والساحات، بهدف فتح صفحة جديدة في العلاقة معهم، وكذراع – فكري ومجتمعي - ضارب يمكن الاستقواءُ به لمواجهة خصومه السياسيين من اليسار والشيوعيين، الذين كانوا متغلغلين في كل مرافق الدولة، وعلى رأس الكثير من المواقع القيادية المدنية والعسكرية.

د. أبو مرزوق: الرجلُ الأوّلُ في قيادةِ التنظيم

عندما بدأ توافُدُ الطلاب الفلسطينيين من قطاع غزة للدراسة بالجامعات المصرية، كان هناك عددٌ لا بأس به من الشباب الملتزم إسلامياً بينهم.. وفي عام 1974، آلت الأمور إلى الأخ أبو مرزوق؛ كمسئولٍ أول عن التنظيم الفلسطيني في مصر، حيث عمل على إعادة هيكلته وتنشيطه. أقام الأخ أبو مرزوق مع بعض أفراد عائلته في نفس البناية التي كنت أقطنها أنا وعددٌ آخر من الشباب الملتزمين حركياً، وكانت شقته في مواجهة شقتنا تقريباً، الأمر الذي أتاح لنا الكثير من الوقت للتزاور وتداول الحديث معاً.

غادَرَنا الأخ أبو مرزوق للعمل في الإمارات، وتولّى إخوةٌ من الأردن قيادةَ التنظيم الجديد المسمّى (بلاد الشام)، والذي تشكّل في عام 79، ليكون حاضنةً للعمل الإسلامي في الساحتين الفلسطينية والأردنية، وراعياً لنشاط الطلاب الفلسطينيين والأردنيين في الخارج.

انتصارُ الثورةِ الإسلاميةِ في إيران: أحداثٌ ومواقف

صاحَبَ انتصارَ الثورة الإسلامية في إيران، وعودة الإمام الخميني إلى طهران نهاية السبعينيات، حراكٌ إسلاميٌ واسعٌ في العالم العربي، وخاصةً بين أوساط الشباب الإسلامي، وقد شهدت تلك الفترة نشاطاً مكثّفاً داخل الجامعات المصرية، ولم نكن نحن – بالطبع - بعيدين عنه، بل كنا في قلب الحدث، حيث أدخلتنا مجلة "المختار الإسلامي" الشهرية، الممثِّلةُ لنبض الشارع الإسلامي في مصر بمقالاتِها التحليلية، لأنْ نكونَ جزءاً من معادلة الثورة القائمة، والتي كان للأخوين فتحي الشقاقي وبشير نافع مقالاتٌ ثابتةٌ فيها، تتناول تلك الثورة الإسلامية في إيران بشكل متعاطف وتبشر بثورة مثلها في عالمنا العربي.

التخرج واللقاء في الإمارات:

غادرنا مصر بعد التخرُّج من الجامعة في نهاية السبعينيات عائدين إلى أرض الوطن، وظلت علاقاتنا قائمة مع الأخ أبو مرزوق، الذي سبقنا للعمل في الإمارات.. وبعد عامٍ تقريباً، هيّأ لنا – من خلال علاقته هناك - بعض فرص العمل، حيث لحقت به مع بعض الإخوة للعمل هناك، وقد نجح في بناء وهيكلة التنظيم الفلسطيني في الإمارات، وتمكّن من جلب الكثير من العناصر الإسلامية للعمل هناك.

في بداية الثمانينيات، تمكّن الإسلاميون من أبناء الإمارات من الوصول إلى مواقعَ متقدمةٍ في الحكومة، فكانت بأيديهم وزارة التربية والتعليم ووزارة العمل والأشغال العامة وكذلك وزارتا العدل والأوقاف.. وقد كان من حسنات هذا التحوُّل وبركته، أنْ قامت وزارة التربية والتعليم بتقديم منح تعليمية لعدد كبير من الشباب الإسلاميين المقيمين فيها للدراسة في الدول الغربية، وكان أنْ طالنا نصيبٌ منها، حيث سافر الأخ أبو مرزوق إلى الولايات المتحدة في نهاية 1981، ولحقت به بعد عدة أشهر.. حيث التقينا مجدداً في أمريكا والتحقنا معاً بجامعة كولورادوا.

قيادةُ العملِ الإسلاميّ: جهدٌ وتميُّز

في تلك الفترة من بداية الثمانينيات، كان النشاط الإسلامي على الساحة الأمريكية تقوده عدة مؤسسات عربية طلابية؛ أهمها: رابطة الشباب المسلم العربي (MAYA)، والاتحاد الإسلامي لفلسطين(IAP)، وكان وجودنا الفلسطيني قوياً ومؤثراً داخل تلك المؤسسات، حيث أخذ الأخ موسى مكانته السريعة في قيادة عملنا الفلسطيني هناك، وأصبح هو المسئول الأوّل عن تنظيم بلاد الشام في أمريكا، وتمكّن من إيجاد فضاءات حيوية لنا لمباشَرة نشاطنا وحشد طاقات الشباب، من خلال تفعيل الاتحاد الإسلامي لفلسطين، وتطوير وإنشاء مؤسسات وجمعيات أخرى تكون حاضنة لنشاطنا الدعوي والإغاثي هناك.

بعد عامٍ تقريباً، تبوَّأَ الأخ موسى موقعاً تنظيمياً آخر داخل التنظيم الإخواني العام، وأصبح مسئولاً عن الدائرة السياسية في قيادة حركة الإخوان المسلمين في أمريكا، وقد كان لي شرفُ العمل معه بالإشراف على النشرة الدورية "السياسي: مفاهيمٌ ومواقف"، والتي كانت موضوعاتها تشتمل على التحليلات السياسية وتقديرات الموقف، ويشارك في كتابتها بعض القياديين وأساتذة العلوم السياسية بالحركة.

في الحقيقة، كانت تلك السنوات من عقد الثمانينيات هي أفضل فترات الكسب والعطاء والحشد والتعبئة للحركة، وأيضاً لنشاطنا الإسلامي لفلسطين.. وقد نجح تنظيم بلاد الشام أن يفرض حضوره داخل ساحة العمل الإسلامي في أمريكا، ويتمكن من كسب مباركة وتأييد الجميع ليفوز د. أبو مرزوق برئاسة التنظيم الإسلامي العام على مستوى الساحة الأمريكية بكاملها.

إخوانُ أمريكا: تنظيماتٌ طلابيةٌ وهِمّةٌ عالية

تنقَّل الأخ أبو مرزوق بهدف الدراسة في عدة ولايات أمريكية، حيث أقمنا معاً في مدينة كولومبيا بولاية ميسوري، بعد أن انتقلنا - معاً - من مدينة فورت كولينز بولاية كولورادوا.. انتقل الأخ أبو مرزوق إلى ولاية لويزيانا، حيث أنهى هناك دراسة الدكتوراه في هندسة الإنشاءات، عاد بعدها إلى ولاية فرجينيا بمدينة (Fall Church) التي تقع داخل حزام واشنطن العاصمة، حيث باشر - من هناك - عمله التجاري والدعوي.

بدأنا في مطلع التسعينيات بتأسيس مركز دراسات (Think-tank)، وكان د. أبو مرزوق هو رئيس مجلس الأمناء للمؤسسة، أما أنا فكنت المديرَ التنفيذيَّ لها. لقد عمل د. أبو مرزوق على إنشاء العديد من المؤسسات الإغاثية والإعلامية والتعليمية، وكان اسمُه حاضراً في مجالس أمنائها، وكانت كل هذه المؤسسات تعمل بشكل قانوني، قبل أن يتم حلُّها وتوجيهُ الاتهامات لها بسبب علاقتها بالدكتور موسى أبو مرزوق.

في عام 1989، تعرَّض قطاعُ غزةَ لضربة قوية، حيث اُعتقِلَ أكثرُ من 90% من التنظيم على إثر خَطْف الجندي (آفي سبورتس) و(إيلي سعدون)، كما اهتزَّ الوضع كذلك في الضفة الغربية. اضطُرَ د. أبو مرزوق للسفر إلى قطاع غزة لإعادة بناء التنظيم، ولأوّل مرة يتمُ فصلُ العمل الأمني – الجهادي عن العمل الدعوي، وهو مَنْ أطلق اسمَ "كتائب الشهيد عز الدين القسام" على العمل العسكري، حيث كان هناك عملٌ موجودٌ باسم الشهيد عبدالله عزام، ولكنَّ مساحاتِ نجاحاته كانت محدودة.

قيادةُ حركةِ حماس: بدايةُ التحريضِ الإسرائيليّ

في عام 1992، تمَّ اختيارُ د. أبو مرزوق رئيساً للمكتب السياسي لحركة حماس، وبالرغم من السرّية التي طبعت نشاطات الحركة وأسماء قياداتها وإطاراتها التنظيمية، إلّا أنَّ اسم د. أبو مرزوق وجد طريقه إلى وسائل الإعلام العربية والأمريكية.

فرض هذا الموقع الجديد على د. أبو مرزوق القيام بعدة سفرات من مقر إقامته بأمريكا إلى بعض البلدان العربية والإسلامية لمتابعة شئون الحركة والتنظيم.. وفي أوّل اجتماع لمجلس الشورى عام 1993، استقال د. أبو مرزوق من رئاسة التنظيم بأمريكا، مع العلم بأن حركة حماس – آنذاك – لم تكن مُدرجةً على قوائم الإرهاب بالولايات المتحدة الأمريكية أو في أوروبا. لا شكَّ بأن هذا الوضع قد سهّل من مهمة عمله كقيادي للحركة داخل أمريكا وخارجها.

عملت أجهزةُ الأمن الإسرائيلية على تحريض العالم الغربي ضد حركة حماس من خلال ماكينة الدعاية الصهيونية ذات التأثير الكبير في الدول الغربية.

وفي كانون الثاني 1995، أدرجت وزارة الخارجية الأمريكية حركة حماس في قائمة الحركات الإرهابية؛ بناءً على أمر تنفيذي من الرئيس بيل كلنتون، وشرعت في مراقبة أنشطتها داخل الساحة الأمريكية.

تمكنت إسرائيلُ من القيام بحملة تحريض واسعة لملاحقة العناصر الفلسطينية الإسلامية والمؤسسات الداعمة للقضية الفلسطينية أو المتعاطفة معها، وذلك عبر مجموعة من الشخصيات الصحفية والأكاديمية المتصهينة في الولايات المتحدة، التي بدأت في نشر أسماء بعض الشخصيات والمؤسسات المستهدَفَة، بغرض تعبئة الرأي العام الأمريكي ضدَّ كلّ ما هو إسلامي وفلسطيني.

في ظلِّ هذه الأجواء المحمومة، جاء ذِكْرُ د. أبو مرزوق كرئيسٍ لحركة حماس ولمؤسساتٍ أخرى داخل أمريكا، حيث كان د. موسى يتبوأ فيها مواقعَ رئاسيةً أو يمثّل أحدَ أركانها الفاعلين.

ملاحقةُ العملِ الإسلاميِّ لفلسطين

في 25 تموز 1995، قامت الولايات المتحدة باعتقال د. أبو مرزوق بمجرد وصوله وعائلته إلى مطار جون كينيدي في نيويورك. منذ تلك اللحظة، برز اسم د. أبو مرزوق كرئيس للمكتب السياسي لحركة حماس، ليتصدّرَ الصفحاتِ الأولى من الصحف الغربية، وليصبح تاريخُه وانتماؤه لحركة حماس ونشاطه السياسي مادة ثابتة في التغطيات الإعلامية؛ سواء في الفضائيات العربية أو الغربية، وكان الاتهام الذي تم توجيهُه إليه هو الانتماء لحركة حماس، التي سبق أنْ وضعها الأمر التنفيذي للرئيس الأمريكي في قائمة الحركات "الإرهابية"، بإيعاز من إسرائيل وجماعات الضغط الصهيونية في الولايات المتحدة الأمريكية.

ورغم ما هو معروف عن فكر ومواقف د. أبو مرزوق وطروحاته السياسية والفكرية التي تتسم بالمرونة والاعتدال داخل الحركة، إلّا أنَّ حجمَ الضغوطات التي بذلَتْها إسرائيل لاستمرار اعتقاله، وحتى المطالبة بتسليمه إليها، كانت رهيبة.

تحركت حركة حماس في كل اتجاه، وضغطت بثقلها الجماهيري داخل الشارع العربي والإسلامي، وفي أوساط جاليتنا المسلمة بالولايات المتحدة وأوروبا، للمطالبة بالإفراج عن د. أبو مرزوق.. ومع تحرُّك الشارع العربي والإسلامي، كانت هناك أيضاً مبادرات رسمية ومناشدات لإطلاق سراحه.. لقد شغل ملف اعتقال د. أبو مرزوق حياتي، ليس فقط من باب الواجب الذي شعرت به منذ اللحظة الأولى للاعتقال، تجاه مناضل فلسطينيٍّ كرَّس حياته من أجل الحرية والاستقلال لشعبه، ولكن ذلك الإحساس "العائلي" الذي جمعنا كأبناء حركة واحدة شكَّل انتماؤنا لها منذ عام 68 مسيرةً ومساراً سكن قلوبنا، وجعل حياتنا بمثابة "وقف إسلامي" لهذا الانتماء، إضافةً إلى ما كان يربطني به شخصياً وعائلته الكريمة من أواصرَ اجتماعيةٍ وطيدة وعلاقاتِ تآخي وجوار، صاحبتنا في كل محطات حياتنا المتنقلة بين رفح ومصر والإمارات والولايات المتحدة الأمريكية.

خلال سنوات اعتقال د. أبو مرزوق، والتي امتدّت قرابة العامين، لم يقتصرْ عملنا في لجنة الدفاع عنه على العمل الإعلامي، بل كانت هناك تحرُّكات سياسية لكسب موقف يمنع ترحيله إلى إسرائيل، والتي شرعت بالمطالبة بتسليمه لها.. كما كانت المسؤولية الأدبية والواجب الأخلاقي والديني تجاه عائلته، والتي وجدَتْ نفسها فجأةً في وضع بالغ الصعوبة والتعقيد لم تكُن مهيأةً له.

لقد كانت سنوات سجن د. أبو مرزوق منحة ربانية، فتحت لحركة حماس أبواباً ما كان يمكن أنْ تلِجَها لولا حادث الاعتقال، الذي أراد الصهاينة من ورائه أن يكون درساً لحماس بأنَّ يد إسرائيل الأمنية ستلاحقها وتطالها في كل مكان، فكانت إرادة الله أن تكون هذه المحنة منحةً، لينتشر فكر حماس، ويتعرف الناس على الحركة ورجالاتها ورؤيتها السياسية وحقها المشروع في مقاومة الاحتلال.. كانت فرصة لكشف زيف ادّعاءات إسرائيل ومحاكمة جرائمها، كنا نشعر بأنَّ العبء علينا كبير، لكن عائد هذه القضية والكسب المرجو من ورائها كان عظيماً.. بالطبع، كانت حركة حماس تبذل جهداً كبيراً لتعبئة الساحات العربية والإسلامية من خلال تواصلها بقيادات الحركة الإسلامية، التي تتمتع بنفوذ كبير في منطقة الشرق الأوسط، وقد نجحت التحرّكات التي قامت بها حركة حماس في أنْ تجعلَ قضية اعتقال د. أبو مرزوق قضيةَ رأي عام عربي وإسلامي، وأنَّ أيَّ مساسٍ بحياته هو مساسٌ بحياة كل عربي وكل مسلم.

أمام هذه التغطيات الإعلامية الهائلة، والحراك السياسي الواسع، والتفاعل الجماهيري الكبير مع القضية، حيث كانت تصل د. موسى داخل سجنه في منهاتن مئات الرسائل - أسبوعياً - من داخل أمريكا وخارجها، إضافةً للتهديدات الأمنية التي كانت تطرق أبواب وهواتف السفارات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، لم تجدْ إدارة الرئيس بيل كلينتون إلا ترحيله إلى الأردن، وإنهاء هذا الملف بالسرعة الممكنة.. ربما كان القرار الشجاع الذي اتخذه د. أبو مرزوق بتقديم طلبٍ قانوني برفض الاستئناف وإصراره عليه - رغم اعتراض محاميه في البداية - هو الذي عجّل بقرار الترحيل إلى الأردن؛ لأنّ القرار وضع الإدارة الأمريكية في حرج كبير، إذ يتوجب عليها - حينئذ – بموجب القانون تسليمه لإسرائيل خلال 60 يوماً، الأمر الذي جعل نتانياهو يسحب طلب التسليم، لإبعاد شبح التهديدات التي توعدته بها كتائب القسام وحركة حماس إذا ما تمَّ تسليمُه لإسرائيل.. وجدت أمريكا نفسها مرةً ثانيةً في وضع بالغ الخطورة والإحراج، ممّا دعاها للاتفاق مع المحامين حول عملية الإفراج عنه، وترحيله بطائرة خاصة إلى الأردن. وهذا ما تمَّ قبل واحد وعشرين سنة من هذا الشهر؛ أي في 4 مايو 1997م.

في الأردن، اُستُقبِلَ د. أبو مرزوق على المستويَين الشعبي والرسمي، وحظي بإقامة مريحة للعمل داخل الساحة الأردنية، وقد فطن الملك حسين (رحمه الله) مبكراً لهذه الورقة الرابحة "ورقة حماس"، فهيّأ للحركة مسرحاً للعمل منه، حيث قامت الحركة بافتتاح مكتبٍ لها في العاصمة عمان، وظلت هذه العلاقة المتوازنة مع الملك حسين والنظام الأردني تتطور بشكلٍ إيجابي، إلا أن هذه العلاقة انتهت بوفاة الملك حسين (رحمه الله) في فبراير 1999.. وبعد تتويج الأمير عبد الله ملكاً للبلاد خلفاً لأبيه، قامت أجهزة الأمن الأردنية بإغلاق مكاتب حركة حماس في الأردن واعتقال قادتها وترحيلهم إلى قطر، باستثناء د. موسى، حيث تمَّ إبعادُه إلى دمشق.

أبو مرزوق: عُمقُ الرؤيةِ والبصيرةُ السياسية

لا شكَّ أن د. أبو مرزوق كانت مواقفه سباقة في الكثير من المحطات، حيث حاول بعد توليه قيادة المكتب السياسي عام 1992 تعديل ميثاق 88، إلا أن الأجواء– آنذاك – لم تكن مهيأة لمثل هذا الأمر، وكذلك كانت له مقترحات من أجل تطوير البرنامج السياسي لحركة حماس، وكان من أوّل الداعين كذلك إلى دخول حركة حماس لمنظمة التحرير الفلسطينية، وشارك في اللقاءات التي تمَّت في اليمن والسودان لمثل هذا الهدف.

لم يبخل د. موسى أبو مرزوق في تشجيع الجهود لإعادة توحيد الصف الفلسطيني الإسلامي، حيث شارك في محاولات جمع الصف بين حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي، باعتبار أنَّ الذي اختلفنا عليه في مطلع الثمانينيات - وهو توقيت المواجهة المسلحة مع العدو الإسرائيلي - انتهى ولا مبرر لاستمرار الانقسام بين الإسلاميين. إنَّ د. أبو مرزوق جريءٌ في قول كلمة الحق، ولم أشهدْ عليه مكابرة أو عناداً، وقد اعترف بوجود أخطاء شارك فيها الجميع أدت إلى ما وقع من أحداث دامية في يونيه 2007. وأيضاً، عندما كانت تخرج تصريحات مغالية من بعض كوادر الحركة أو قياديِّيها، كان ينبري لها لتصحيح الموقف.

ختاماً: هكذا عرفناه

يمكننا إجمال كل ما سبق بالقول: إن هناك بعض الوجوه التي إذا نظرْتَ إليها شعرتَ بالراحة والطمأنينة، وإذا تعاملتَ معها وجدتَ أنك في رحاب الخيّرين من أبناء هذه الأمة، وإذا استمعتَ إليه في دائرة التحليل السياسي والرؤية الحركية أدركتَ عمق الوعي الذي يتمتع به، وحجم المعطيات التي ترشح منها قراءاته وتفسيراته للأحداث.