قصة «الثورة السورية» (1~2)

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

لفهم مآلات ومستقبل "الثورة السورية"، ولماذا، وكيف وصلت إلى هذا الوضع المأساوي، ينبغي بدايةً فهم الظروف الاجتماعية والأمنية والسياسية التي سادت في سورية قبيل اندلاع الثورة، والأزمات التي عصفت بالمجتمع المدني، والعوامل التي صاغت شخصيَّة المواطن السوري آنذاك، والتي شكّل الخوف جزءا كبيرا منها.
ولا شك أن فساد الأجهزة الأمنية وتسلطها على الناس وخرقها للقانون (بالإضافة لعوامل أخرى)، خلق حالة من الاحتقان الشعبي، أدى في نهاية المطاف إلى انفجار المرجل دفعة واحدة، وعلى نحو خالف كل التوقعات.
في بدايات الثورة، خرجت مظاهرات شعبية سلمية كانت مطالبها لا تتعدى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية ووقف ممارسات الأجهزة الأمنية.. تلك المظاهرات لمعت كالصاعقة في ليلة ساكنة دامسة الظلام، تخفي وراءها الغيوم والأعاصير.. وأمام هذه المفاجأة (الحتمية) انقسم المجتمع السوري بين متخوف من الخطوة وبين متحمس لها، ولكن لم يكن في ذهن أحد حينها أن الأمور ستتطور إلى درجة فقدان السيطرة وانفلات كل شيء من عقاله.
ومع تصاعد الأحداث، اختلفت نوايا واتجاهات الجهات المشاركة، وكانت كل جهة ترى الأحداث من زاويتها الخاصة؛ فمثلاً، قسم كبير من المجتمع السوري كان حتى تلك اللحظة مع الدولة والنظام، بمن فيهم المتضررون من الفساد وتعسف أجهزة الأمن.. هؤلاء كانوا مؤمنين بأن الدولة (على علاتها) توفر الأمن للمواطن والاستقرار للبلد، ولديهم قناعة بأن الثورة عبارة عن مغامرة ستقضي على النظام والقانون وستجلب معها العنف والدماء والفوضى. وهؤلاء عندما دافعوا عن الدولة كانوا يدافعون عن نمط حياتهم التي ارتضوها لأنفسهم واعتادوا عليها، كانوا يدافعون عن التعايش، وعن السلم الأهلي.. لكن موقفهم هذا سيضعهم في الصف المعادي للثورة (أو بوضع المحايد السلبي)، بحيث أنهم وجدوا أنفسهم، ودون قصد، وجها لوجه في مواجهة الثوار، والدولة عاجزة عن حمايتهم، فبدأت العداوات الفردية ومن ثم الثارات الجماعية، وهنا أخذت الأزمة تتعمق، وبدأت الكراهية تتجذر بين الطرفين.
قسم معين من قادة ومنتسبي الأجهزة الأمنية والجيش كانوا على قناعة بأن سورية هي دولة المقاومة، وقلعة العروبة، وأنها تتعرض لمؤامرة خارجية شريرة، ينبغي التصدي لها. وقسم آخر كان يدافع عن امتيازاته الخاصة ومصالحه الشخصية، بغض النظر أي الفريقين كان أكبر، المؤكد أن الفريقين تصرفا بشكل عنيف، ولا إنساني.
وكان من البديهي، في ظل تربية حزبية مغلقة وخطاب إعلامي سلطوي أن تتراجع لغة العقل والمنطق، وأن تسحقها عجرفات الجنرالات والمحافظين، خاصة بعد أن شعروا بأن الأرض بدأت تتزلزل تحت أقدامهم؛ وهكذا تراجعت دعوات الحوار، واختفت محاولات تفهّم مطالب المتظاهرين، ومعالجة الأمر بالحكمة.. وكانت كل رصاصة تُطلَق على المتظاهرين تَزرع مزيدا من بذور الثورة، وتخلق أسبابا إضافية للتعبير عن الرفض، ومعها تتساقط جدران الخوف.
كان بمقدور محافظ درعا مثلا، وكذلك بقية قادة الأجهزة الأمنية أن يطوقوا الأحداث في مهدها، وأن يغيروا مسارها كليا، لو أنهم اتسموا ببعض الحكمة، أو لو أنهم تصرفوا بقدر من المسؤولية الوطنية والحس الإنساني.. لكن عقلية التسلط والقهر هي التي حكمتهم؛ فلم يستطيعوا تصور أي حل سياسي أو إنساني للأزمة، كان تفكيرهم منحصرا في طرق القمع والقتل والاعتقال.
وهذا لا يعود لقصر نظرهم، أو نتيجة سوء في تقديرهم للموقف، بقدر ما كان نتاجا طبيعيا لسلطة مستبدة.
ومع بدء الأحداث وجد بعض المتطفلين والانتهازيين من الحثالات التي كانت تعيش على هامش المجتمع فرصة التكسب والنفاق، مقدمين خدماتهم الأمنية، وقسم آخر انخرط في حملات القمع والتنكيل (الشبيحة)، في محاولة منهم للثأر من المجتمع الذي طالما عزلهم وكشف عوراتهم.
في تلك اللحظة كانت الأجهزة الأمنية بحاجة ماسة لمثل هؤلاء، حتى أنها أطلقت اليد للضباط الذين كانت تنتظرهم محاكمات على أخطاء مسلكية وتجاوزات، كما تحالفت مع مجموعات خارجة عن القانون كانت تربطها معها شبكات فساد وتجارة غير شرعية، ما يعني أن أي محاولة للإصلاح فقدت فرصتها تماما.
ومع تطور الأحداث، وانتقال شرارة التمرد من محافظة لأخرى، كانت كل طائفة يُقتَل أحد أفرادها تستحضر على الفور جذورها الطائفية، وتستدعي كل الأسباب الطائفية لتفسير وفهم ما حدث على أساسها، وبالتالي الانتقام من الطائفة الأخرى التي أنجبت القاتل.. ومن هنا بدأت أسس التعايش المجتمعي تتهاوى شيئا فشيئا، لتنتصب مكانها جدران من الكراهية الطائفية، وجدران من الخوف والشك والتربص بالآخر، وأخذت تسود لغة التعميم، والأحكام المطلقة، التي تتعامى عن رؤية أي جانب خيّر أو إيجابي في الطرف الآخر.
الثوار أنفسهم هم أول من جنوا على الثورة السورية، هم أول من أساء لها، وشوّه صورتها، وحرفها عن مسارها، قبل أن تبدأ قطعان المرتزقة وشذاذ الآفاق تتكالب على سورية قادمة من 80 دولة.. شدة القمع والتعذيب والقتل الذي مارسته الأجهزة الأمنية خلقت عقليات متشنجة وموتورة (لدى الطرفين)، واستدعت ردات فعل عنيفة من قبل الثوار، ولكن هذا العنف لا يمكن له أن يظل باتجاه واحد، فقد بدأ يضرب بكل الاتجاهات، حاملاً معه مزيداً من التطرف والتعصب، فصار العنف يمارَس لأجل العنف.
وهكذا ومع غياب الدولة من مناطق واسعة، وانهيار الأمن والقانون، انفلتت نزعات العنف المكبوتة، وصار العنف الذي يمارسه الثوار شكلا موازيا للظلم الذي تعرضوا له على يد النظام، ولا يقل بشاعة عنه، وفي كثير من الأحيان لم يكن لأهداف سياسية؛ بل لأهداف إجرامية بحتة.
مع اشتعال الأزمة وانتشارها، أخذت الكراهية تتعمق أكثر فأكثر بين الجماعات المتصارعة، وصار السلاح متوفراً بيد كل من يطلبه، وبات القتل سهلا، حتى بين الجماعات التي كانت سابقا تنبذ العنف، لأن الخوف في زمن الحروب والصراعات يسيطر على الإنسان، ويطلق مشاعره السلبية، ويجعل منه كائنا عدوانيا تسيّرهُ غرائزه البدائية، وبذلك اختفت مشاعر الرحمة لتحل محلها القسوة والكراهية.
والكراهية في أجواء الخوف والصراع الدامي تدفع كل طرف لأن ينزع الإنسانية عن خصمه، وتجريده من آدميته، وشيطنته، وبالتالي تبرير قتله أو إيذائه دون شفقة.
لم يدرك أحد حينها أن الحرب ذاتها هي المجرمة الأولى، التي لا تكف عن إنجاب المجرمين..