ضلال السياسات وقمع التظاهرات

e30ba9114c613e09366766481ce09eac.jpg
حجم الخط

 

ليست جديدة، تقنية دس عناصر الأمن في التظاهرات المطلبية النبيلة، لتخريبها ولوصمها بما ليس فيها. فهذا أسلوب مستهلك ومحروق، كان من بين أطرف أمثلته، في الستينيات، أن يصارح جمال عبد الناصر شعبه،  في خطاب منقول على الهواء، بأن فرعاً من جماعته الأمنية فعلها لكي يخلط الأوراق. ولم يتهم الرجل آخرين وإنما اتهم جماعته، والتقى الشباب المتظاهرين واسترضاهم. اليوم تأخذ السلطة في بلادنا بهذا الأسلوب المحروق، الذي لم يعد ينطلي على أحد، وليس في النوايا ولا في الثقافة ولا في السلوك، أن يُطلب فريق من المتظاهرين لسماع مطالبه واسترضائه بالحل العقلاني.

فصيل "الجبهة الشعبية" يبادر في نابلس، الى دعوة لإعلان رأي الشعب، فيستمزج آراء الفصائل والقوى السياسية، ويكون الاتفاق على تحييد التظاهرة الشعبية المطالبة بحق الناس في غزة، في رفع الإجراءات الفاجرة التي اتخذت ضدهم. وفي محاولة سخيفة لتأثيم التظاهرة، تندس عناصر أمنية مهمتها اختلاق توجهات حزبية وعدائية وتخوينية، لتوفير  غطاء لعملية القمع. وفي سياق مجمل التظاهرات، ولتوفير مثال يُقاس عليه، لتأثيم التظاهرات،  تَصطَنع الأجهزة من نفسها ولصالحها، في بيت لحم، مثالاً للتظاهرة التي تهتف ضد العقوبات الجائرة، وتُسقى بماء الورد ويجري التعامل معها بحنان، لكي يقتنع البسطاء أن الأصل في تعامل أجهزة الأمن، هو هذا المثال، وأن الخروج عنه، لا يكون إلا بجريرة التطاول والتخوين والشعارات الحزبية، وعندئذٍ يكون القمع عملاً اضطرارياً لا بد منه!

هذه الألاعيب، على طريقة أفلام الأكشن القديمة، لن تصل الى نتيجة ولا تُعدّل انحرافاً ولا تشهد للضال بحثسن السير والسلوك، لأنها تفارق المنطق والصواب والعدالة. فالموضوع الذي يتظاهر من أجله الشعب الفلسطيني، لا يتعلق بأحزاب ولا بسجالات سياسية بين السلطة والقوى السياسية. إنه يتعلق بالناس وبلقمة خبزهم وبمصاعب حياتهم، ثم إن علائم إطاحة العدالة، مرئية والتبجح والغرور ظاهران، وبراهين الإقصاء الجمعي للبشر واضحة. فهؤلاء الذين يقمعون، لن يصلوا لأية نتيجة، سوى استطالة آثامهم، وبعدئذٍ سيعرف الظالمون أي منقلب ينقلبون!

إن الداعين الى إنهاء المهزلة المفتضحة، يمثلون في جوهر حراكهم الشعبي، دعوة وطنية الى الرشد والتعقل وإصلاح المسار. إنها دعوة من نوع النصيحة الثمينة، وأبعد في معناها وأهميتها من الموضوع الإجتماعي، لأنها موصولة مباشرة بانعكاس الأمر الاجتماعي على أمر المصير الوطني والسياسة. لكن المغرورين، للأسف، يركبون رؤوسهم ولا وقت لديهم للتأمل، لكي يفقهوا ويعرفوا الى أين يأخذون المجتمع الفلسطيني وقضيته. ولعل من غرائب سلوكهم، أنهم يثرثرون ضد ما يُسمى صفقة القرن، ويتهمون الآخرين بالتساوق معها، على الرغم من أن جميع ممارساتهم، تدل على استعجال اية تسوية مشوهة، لكي يغادر عباس ويترك الحطام لعناصر لن تستحي من الترحيب بأية صيغة لتضييع القضية. فمن يراجع صيغ ومشروعات الحلول التي طُرحت منذ العام 1967 ويقرأ مقترحات جميل شحادة وحمدي التاجي الفاروقي وأحمد أبو شلباية ومحددات الأداء السياسي للشيخ محمد علي الجعبري ومصطفى دودين وغيرهم؛ يدرك أن مثل هذه التوجهات موجودة في بعض ثنايا الشرائح الميسورة، واليوم، أصبح مُحدثو النعمة، الذين أثروا من السلطة واعتاشوا على انتحال تاريخ الحركة الوطنية والثورة؛ أصحاب مصلحة في الحلول الهزيلة الضامنة لأدوارهم ولبحبوجة شرائحهم.

فلا نتيجة للقمع، سوى الإسهام في تعميق حال الإحباط الوطني، والاستمرار في ضلال السياسات الاجتماعية وفي ازدياد الجموح المناطقي الذي يرتد على أصحابه، ارتداد الفضيحة على أصحابها.