انسحاب أميركا من النظام الدولي

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

منذ عهد "ترامب"، والإدارة الأميركية تتخذ سياسة الانسحابات من المعاهدات والاتفاقيات الدولية والمجالس الأممية، في منحى يدل على الغطرسة والعنجهية؛ فقد انسحبت من الاتفاق النووي مع إيران، بعد سنوات مضنية من المفاوضات، وانسحبت من "اتفاق باريس للمناخ"، الذي دعمه المجتمع الدولي للحد من التلوث البيئي، كما انسحبت من "اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي" التي وقعتها 11 دولة العام 2015 من منطقة آسيا والمحيط الهادي (باستثناء الصين)، والتي تمثل 40% من الاقتصاد العالمي.
كما أطلق "ترامب" مفاوضات جديدة بشأن اتفاق التبادل الحر لدول أميركا الشمالية "نافتا"، حيث يرى "ترامب" أن الاتفاقية ساهمت بنقل ملايين الوظائف من أميركا إلى المكسيك. وفي حال فشل المفاوضات ستنسحب واشنطن من "نافتا" وستتفاوض على اتفاقات ثنائية.
كما وضعت إدارة "ترامب" منظمة التجارة العالمية نصب أعينها؛ ففي اجتماع لمجموعة العشرين، لم يستبعد وزير الخزانة الأميركي "منوتشين" إعادة التفاوض على اتفاقات متعددة الأطراف.
كما انسحبت أميركا من إعلان نيويورك للاجئين والمهاجرين "الميثاق العالمي للهجرة". الذي يضم 193 دولة، ويهدف إلى تحسين إدارة اللاجئين الدولية، والحفاظ على حقوق اللاجئين.
محددات تلك الانسحابات وفق السياسة الأميركية الجديدة مبنية على أساس رؤية ترامب: "أميركا أولاً"، ونظرته السلبية تجاه العالم؛ حيث يعتبر أن العالم كله يسعى لاستغفال أميركا واستغلالها، وأن الدول الأعضاء في تلك المنظمات تتحالف ضد أميركا وإسرائيل.. وهو بذلك يتبنى وجهة نظر اليمين القومي المحافظ، الذي يرى أن أميركا ليست في حاجة للمنظمات الدولية، وإنما المنظمات الدولية هي التي تحتاج أميركا، لذلك فإن إدارة "ترامب" مستعدة للانسحاب من جميع المعاهدات والاتفاقيات التي لا تخدم مصالحها، حتى لو كان ثمن ذلك تخليها عن قيادة العالم في تلك المنظمات، فالمسألة الأهم تعزيز مصلحتها الداخلية؛ لذا فهي ليست مستعدة للمساهمة في تلك المنظمات والاتفاقيات إلا إذا كانت المستفيد الأول منها، فحسابات وأولويات إدارة ترامب أصبحت مختلفة عن ذي قبل، ورسالتها في ذلك تهديد المجتمع الدولي، وتخييره بين الخضوع لسياساتها، وبين الانسحاب من هياكلها، أو تقليص مساهماتها المالية.
لكن المسألة لا تقتصر على الجانب الاقتصادي وحسب؛ بل هناك جانب سياسي (وهذا الأهم)، حيث شملت الانسحابات منظمات دولية مهمة جداً.. والمعيار هنا حماية إسرائيل، والوقوف ضد أي تحرك فلسطيني.
فقد أصدر الكونغرس قانوناً يقضي بانسحاب أميركا من أي منظمة دولية تدخل فيها فلسطين عضواً؛ بدأت بالانسحاب من اليونسكو، وهي من أهم المنظمات الدولية، بسبب قبولها عضوية فلسطين (انسحبت إسرائيل من اليونسكو بعد ساعات من انسحاب أميركا)، كما أوقفت أميركا (أو قلصت) مساهمتها في "الأونروا" تمهيداً لإغلاقها.. كما انسحبت من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، بعد أن قرر تشكيل لجنة تحقيق في المجازر التي ارتكبتها إسرائيل في حق الفلسطينيين في مسيرات العودة، والتي خلفت أكثر من 120 شهيداً، منهم أطفال، ومُقعَدون على كراسٍ متحركة.
ويبدو أن المنظمات والاتفاقيات الدولية ستغدو ساحة الصراع الجديدة بين فلسطين والولايات المتحدة، فقد صادق الرئيس محمود عباس على انضمام فلسطين لـ22 اتفاقية ومعاهدة دولية، كرد على قرار ترامب بنقل السفارة الأميركية إلى القدس.
وإذا واصلت الإدارة الأميركية سياسة الانسحابات، فستبدو الصورة وكأن فلسطين تطرد أميركا من المنظمات الدولية تباعاً.. ومشكلة أميركا أنها قيدت نفسها بقانون الكونغرس، وأعلنت ذلك على الملأ.. أي أنها صعدت أعلى الشجرة، وصارت محرجة في كيفية النزول عنها.. ومشكلتها أيضا أنها لا تملك حق "الفيتو" في تلك المنظمات، ما يعني أنها ستعجز أمام الدول التي تقف إلى جانب الحق الفلسطيني.
وهناك ما يزيد على الـ 130 دولة موقفها شبه مضمون لصالح فلسطين، وأحيانا يكون العدد أكبر. فمثلا في نهاية العام 2017، أدانت 128 دولة في الأمم المتحدة اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، ولم تنجح الضغوط الأميركية إلا بمنع 35 دولة من التصويت، وتغيب 21 دولة، ومعارضة 9 دول بينها أميركا وإسرائيل، ودول هامشية ضئيلة.
ولا شك في أن انسحابات أميركا من المنظمات والمعاهدات الدولية ستخلق فراغاً قيادياً على مستوى العالم، وهذا قد ينجم عنه زعزعة البنية الدولية، وعدم استقرارها، وإرباك لمؤسسات النظام الدولي.
والمشكلة أن إدارة ترامب تسارع للتنصل من الاتفاقيات أو الالتزامات الدولية كما لو أنها غير مكترثة بتبعات خطوتها؛ فهي تنسحب دون تشاور مع الشركاء، ودون أن تكون لديها تصورات عن البدائل، بل أحياناً دون دعوة الخبراء لتقديم إطار عمل جديد يضع في اعتباره العواقب وردود الفعل ويحدد الخطوة التالية.
ستبرز المشكلة بشكل أكبر إذا ما انسحبت أميركا من منظمات لها تأثير على الأمن الاقتصادي العالمي، مثل منظمة التجارة الدولية، أو "الفاو"، أو المنظمة العالمية للملكية الفكرية (وايبو)، التي انضمت فلسطين إليها كعضو مراقب منذ العام 2005.
ولا يتوقف الأمر عند الفراغ القيادي، حيث ستضع أميركا نفسها في عزلة دولية، وستكون مجبرة حينها على كشف وجهها الإمبريالي الحقيقي، وبالتالي وضوح وقوفها السافر والمنحاز إلى جانب إسرائيل، ودعمها لسياساتها العنصرية والقمعية والتوسعية.. وهذا أمر لا يمكن لها أن تحتمله طويلا.
يبدو أن ترامب بإدارته الطائشة، وانقياده خلف نتنياهو، يسرّع من نهاية عصر الهيمنة الأميركية.