إسرائيل، جنوب إفريقيا والأبارتهايد (1 من 2)

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

تكتسب المقارنة بين إسرائيل ونظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا أهمية كبيرة، خاصة بعد تصويت الكنيست على أكثر القرارات عنصرية في تاريخ إسرائيل؛ والهدف هذه المقارنة الوصول إلى فهم أعمق لطبيعة النظام الإسرائيلي، من خلال كشف عنصريته بالمقارنة بنظام الأبارتهايد السيئ السمعة في جنوب أفريقيا، والذي تمت إدانته عالمياً.
بالنظرة الأولى للتجربتين الاستعماريتين في جنوب إفريقيا وفلسطين؛ نجد أوجهاً عديدة من التشابه؛ فكما ادّعى "جان ريبيك" (أول مستوطن تطأ قدماه أرض جنوب إفريقيا) بأنه اكتشف أرضاً خالية من السكان، ادّعت الحركة الصهيونية أنّ فلسطين أرض بلا شعب. وكما ادّعت الكنيسة الهولندية بأنّ البيض المستعمِرين هم شعب الله المختار، وأن السود خُلقوا عبيداً لهم؛ ادّعت الصهيونية بأنّ اليهود هم شعب الله المختار، وأن باقي البشر ما هم إلا أغيار. الغزاة الهولنديون أطلقوا على جنوب إفريقيا اسم "معسكر الأمل"، والمستوطنون اليهود الأوائل أطلقوا "نشيد الأمل" (هتكفا). 
وفي الحالتين نجد تشابهاً ليس في الخدع والأكاذيب لتبرير السلوك العنصري وحسب، بل حتى في سياقات التاريخ الاستعماري؛ فقد تشابهت مجريات الأحداث في البلدين على نحو لافت؛ إذْ تعرّضت كلّ من جنوب إفريقيا وفلسطين لغزو استعماري بريطاني، نتجَ عنه نظامان عنصريان، قاما على بناء سياسي أيديولوجي يزعم التحضّر والتفوّق، ويؤسّس للفصل بين الغزاة والسكان الأصليين. وقد أضاف هذا الفصل العنصري شبَهَاً إضافياً بين الحالتين؛ إذْ شكَّلَ معضلة وجودية للنظامين العنصريين، وأزمة تاريخية استعصى عليهما حلها؛ وعنوانها: الحضور التاريخي للشعب صاحب البلاد، وحتمية الاعتراف بحقيقة وجوده، وبحقوقه الطبيعية والسياسية.
وقد شكّل العام 1948 لحظة تاريخية فاصلة في التاريخ الاستعماري للبلدين؛ سيسهّل علينا إجراء المقارنات الزمنية بينهما؛ فهو العام الذي أُقيم فيه الكيان الإسرائيلي، وعلى إثر ذلك حلّت بالشعب الفلسطيني نكبة ما زالت مستمرة، وهو نفس العام الذي استلم فيه الحزب الوطني دفّـة الحكم في جنوب إفريقيا، والذي تحولّت بعده ممارسات الفصل العنصري إلى سياسة رسمية معلنة للدولة. فإذا قامت إسرائيل باحتلال الأرض، وبطرد من تمكّنت من طرده من السكان، وتحويلهم إلى لاجئين، ثم عمدت إلى إبقاء من تبقّى في تجمّعات عربية محدودة المساحة ومعزولة قدر الإمكان عن الوسط اليهودي؛ فإنّ النظام العنصري في جنوب إفريقيا قام بتجزئة البلاد إلى مناطق بيضاء وأخرى سوداء، ونفي المواطنين السود من أراضيهم، وعزلهم في بانتوستونات خاصة بهم، مع فرض إجراءات تقييدية عليهم؛ لتحقيق تفوّق الأقلية البيضاء، وضمان أمنها. وفي الحالتين تمّ اقتراف العديد من المذابح ضدّ السكان، وتم تطبيق النظام بواسطة أجهزة أمنية في منتهى القسوة؛ كان للسجون والتعذيب دور مهم ورئيس في فرضه.
والغريب أنّ دولة البيض في جنوب إفريقيا كانت تدّعي أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في القارة الإفريقية، تماماً كما تدّعي إسرائيل بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، رغم كلّ ما تمارسانه من تمييز عنصري واضح ضد الشعب، ورغم كل جرائمهما ضد السكان. ومع ذلك لا بد من الإقرار بأن البلدين كانا يقومان على مؤسسات حداثية، تتمتع بنظام قضائي قوي، وفصل بين السلطات، وقد مارسا نظاماً ديمقراطياً فريداً من نوعه؛ إذ إنّ ديمقراطيتهما كانت مخصصة لفئة معينة من السكان، يمكن وصفها بالديمقراطية العنصرية. ومع ذلك فإن هذا الشكل (المشوَّه) من الديمقراطية ضَمِنَ للفئات المسيطرة استقراراً في الحكم، وتداولاً سلمياً للسلطة، وحرية التعبير والمشاركة السياسية ومحاصرة الفساد (خاص بالفئة المسيطرة وحكر لها).. في حين كانت الدول المجاورة تشهد الاضطرابات والانقلابات العسكرية وقمع السكان وأسوأ أشكال الفساد المالي والإداري.
التشابه الأهم بين الحالتين، يتمثل بسلسلة القوانين العنصرية التي يقرها الكنيست الإسرائيلي، خاصة في الآونة الأخيرة، فكما أسلفنا، كان نظام بريتوريا قد بدأ يشرعن ممارساته العنصرية بمجرد وصول الحزب الوطني للحكم، وكان قبل ذلك ولمئات السنين يمارس تلك العنصرية ولكن دون أن يشرعنها، أو يثبّتها على شكل لوائح وقوانين، وبمجرد أن فعل ذلك، لم تمضِ سوى أربعة عقود ونيف إلا وكان النظام قد انهار، وقد ساعدت تلك القوانين مناضلي حزب المؤتمر الوطني (بزعامة مانديلا) على كشف حقيقة هذا النظام، وبناء جبهة وطنية وتحالف دولي، أدى إلى فرض عقوبات على بريتوريا، وإلى عزلها، وصولاً لإسقاط النظام.
اليوم، وفي سباق محموم مع التطرف، أقر الكنيست عدداً غير مسبوق من القوانين العنصرية، التي تستهدف الفلسطينيين، وفي دراسة أعدها مركز "مدار"، بينت أن الكنيست أقر منذ العام 2015، 25 قانوناً عنصرياً بالقراءة النهائية، إضافة إلى 15 قانوناً في مرحلة التشريع، و136 مشروع قانون مطروح على جدول الأعمال. وأضافت الدراسة: إن هذه القوانين تعكس حالة تصاعد التطرف واستفحاله في إسرائيل. وبالمقارنة، ذكرت الدراسة التي قام بها الباحث برهوم جرايسي أن الكنيست السابع عشر (2006- 2009)، أقر 6 قوانين عنصرية، وفي الدورة 18 (2009- 2013) أقر 8 قوانين عنصرية. و12 قانوناً في الدورة 19، ويجري الحديث عن 37 قانوناً مباشراً، من بينها 30 قانوناً تهدف إلى فرض ما يسمى "السيادة الإسرائيلية" على المستوطنات، أو على الضفة الغربية المحتلة ككل.
من هذه القوانين: قانون نهب الأراضي المسمى "تسويات" للاستيلاء على أراضي الضفة الغربية، وهدم البيوت في المجتمع العربي الفلسطيني داخل الخط الأخضر، وقانون إعدام الأسرى، وضم القدس، وعدم الاعتراف باللغة العربية كلغة رسمية، ومنع الآذان، ومنع نشطاء المقاطعة من دخول إسرائيل، وغيرها، أما القانون الأكثر عنصرية، حسب الدراسة، فهو قانون الموازنة العامة الداعم للحرب وللاحتلال والاستيطان.
وفي هذا الشهر (تموز 2018)، صوت الكنيست على قانون "إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي"، الذي يعتبر إسرائيل الوطن التاريخي للشعب اليهودي، وفيها يقوم اليهود حصراً وفقط بممارسة حق تقرير المصير.
بهذه القوانين العنصرية، تتشابه إسرائيل أكثر مع نظام بريتوريا السابق، وتتضح صورتها العنصرية كدولة أبارتهايد.

من مشاركتي في كتاب "إسرائيل والأبارتهايد"، إصدار مركز مدار، تحرير د. هنيدة غانم. 2018.