لقد شهد قطاع غزة خلال السنوات العشرة الماضية العديد من المبادرات والطروحات، تقدمت بها ورعتها أطراف إقليمية ودولية عدة، تمحورت حول موضوع التهدئة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل، ورفع أو تخفيف الحصار عن قطاع غزة، ولعل باكورة هذه المبادرات كان اتفاق التهدئة الذي أعقب الحرب الإسرائيلية على غزة في العام 2009، والذي تضمن وقفاً لإطلاق النار بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية؛ مقابل فتح المعابر، وتخفيف الحصار الاقتصادي، وتبع ذلك اتفاق هدنة آخر في نوفمبر 2012، أعقب العدوان الذي شنته إسرائيل على غزة وبدأته باغتيال قائد الجناح العسكري لحركة حماس أحمد الجعبري، واشتمل الاتفاق وقتها على تثبيت وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس، وفتح للمعابر، وزيادة مساحة الصيد في بحر غزة.
وفي عام 2014 وبعد الحرب المدمرة التي شنتها إسرائيل على القطاع، وراح ضحيتها الآلاف من المواطنين الأبرياء، توصل الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي إلى اتفاق هدنة اشتمل على وقف إطلاق النار بين الجانبين، وفتح المعابر التجارية الإسرائيلية مع قطاع غزة، ورفع الحظر على دخول بعض المواد والسلع التي كانت ممنوعة، ومنها مواد البناء والمواد الخام الأخرى، وقد وضعت إسرائيل شروطاً ومعايير معقدة لدخول هذه البضائع، من خلال إشراف دولي، وتحديد وجهة استخدامها، وضمان عدم استخدامها في أي أعمال تضر بأمن اسرائيل، وبموجب هذا الاتفاق أيضاً، قامت حركة حماس بنشر قواتها على طول الحدود الشرقية لقطاع غزة، لمنع أي خرق لوقف إطلاق النار، ومنذ ذلك التاريخ ولغاية مطلع العام الجاري، لم يسجل أي خرق لاتفاق التهدئة من قبل الجانب الفلسطيني، إلا في حالات محدودة وقد تمت ملاحقتها ومعالجتها من قبل الأجهزة الامنية في غزة.
والثابت في كل الاتفاقات والتفاهمات السابقة عدم التزام إسرائيل بها، بل سعت في كل مرة إلى إعادة فرض شروط جديدة للتنصل من الاتفاقات والتفاهمات التي أبرمت، بما يضمن الحفاظ على مصالحها الأمنية، دون أي التزام يذكر تجاه ما اتفق عليه مع الجانب الفلسطيني، كما استغلت الحكومة اليمينية الإسرائيلية حالة الهدوء السائدة في قطاع غزة، لتستفرد بالضفة الغربية والقدس، وتنفذ مشاريعها الاستيطانية في مختلف مدن الضفة، وتمعن في سياساتها التهويدية بحق المدينة المقدسة وطمس هويتها العربية الإسلامية.
ولعل الجهود التي تبذل حالياً لإبرام اتفاق تهدئة جديد برعاية مصرية وأممية بين حماس وإسرائيل، لن يختلف كثيراً عن الاتفاقيات السابقة من حيث الشكل والمضمون، حتى وإن جاء هذه المرة في سياقات وأبعاد مختلفة عن التجارب السابقة، من خلال دخول أطراف عدة على خط المباحثات، وكذلك تزامن هذه الجهود مع مساعي الولايات المتحدة الأمريكية لطرح خطتها للسلام في الشرق الأوسط،، والتي تهدف إلى تحقيق سلام اقتصادي ببعد إنساني، حيث تتضمن الخطة الأمريكية أفكاراً ومقترحات لتحسين الوضع الاقتصادي والإنساني في قطاع غزة، عبر تنفيذ مشروعات بنى تحتية لسكان القطاع من خلال مؤسسات دولية، وبعيداً عن السلطة الفلسطينية، التي عبّرت عن رفضها المطلق لهذه الخطة، وقامت بقطع اتصالاتها السياسية مع الإدارة الأمريكية.
وقد بات معلوماً، أن مبادرات التهدئة التي تناقش هذه الأيام، جاءت استجابة لحالة التوتر التي يعيشها قطاع غزة بفعل مسيرات العودة، والتي بدأت تأخذ منحى تصعيدي متبادل، ينذر بالانزلاق نحو مواجهة شاملة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل. وهذا ما لا تريده إسرائيل أولاً، ومن ثم دول الإقليم وفي مقدمتها مصر، حيث أن حدوث أي تصعيد في قطاع غزة في هذا التوقيت سيكون له تداعيات خطيرة على المنطقة التي تعاني من اضطرابات، ونزاعات، وأزمات اقتصادية عاصفة.
كمان أن إسرائيل ترغب وتدفع بقوة نحو تحقيق تهدئة مع قطاع غزة، كي تتمكن من التفرغ للجبهة الشمالية مع حزب الله وسوريا، بالإضافة إلى أزمتها المتصاعدة مع إيران. فالتوصل لاتفاق هدنة طويلة الأمد بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل من شأنه تقليم أصابع إيران في قطاع غزة، وافقادها لأدوات هامة لها في المنطقة، من خلال ضمان حياد هذه الفصائل في حال حدوث أي مواجهة محتملة مع إيران.
فالسياق الذي تجري فيه حوارات التهدئة في قطاع غزة حالياً لا يتعدى البعد الأمني والإنساني، دون أي بعدٍ سياسي يتعلق بالقضية الفلسطينية كقضية سياسية، كما أن سعي مصر لإدراج ملف المصالحة الداخلية الفلسطينية بالتزامل مع جهود تحقيق التهدئة في غزة؛ يأتي في سياق حرص مصر على إنهاء حالة الانقسام السياسي، وضمان عودة السلطة الشرعية لممارسة مهامها في القطاع، وقطع الطريق على أي خطوات قد تنتج عن اتفاق التهدئة من شأنها تكريس الانقسام، وثبيت سلطة حماس في غزة، وهذا ما تريد إسرائيل تحقيقه، وهو ضمان بقاء الانقسام الفلسطيني وعزل غزة عن المشروع الوطني، وتهيئة الظروف لقيام حكم ذاتي في غزة، أو أي صيغة أخرى تعمق الانقسام السياسي والجغرافي.
والسؤال المطروح، هل تستطيع مصر تحقيق تقدم على صعيد المصالحة الفلسطينية بالتوازي مع اتفاق التهدئة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل، وإقناع الأطراف الفلسطينية بضرورة إنهاء الانقسام وعودة السلطة الشرعية لقطاع غزة؟ أو أنها ستتجه لإنجاز اتفاق التهدئة باعتباره أكثر إلحاحاً، في ظل تزايد مؤشرات التصعيد في قطاع غزة، وخشيتها من تدهور الوضع الميداني، وانزلاقه نحو حرب شاملة، وترحيل ملف المصالحة لمراحل قادمة؟
والسؤال الآخر موجهه لحركة حماس التي هي أمام مفترق طرق مصيري، فهل ستختار الحركة السير في مسار المصالحة والهدنة مع الاحتلال في وقت واحد، أو أنها ستفضل خيار الهدنة عن المصالحة، في محاولة منها لتخفيف الحصار المفروض عليها، وضمان بقاء حكمها في غزة لوقت أطول، و كسب المزيد من الوقت بانتظار ما هو أتٍ من متغيرات سياسية سواء على الصعيد الداخلي الفلسطيني، أو على الصعيد الدولي والإقليمي، قد تساهم في إخراجها من حالة العزلة السياسية التي تعاني منها؟
من المؤكد أن الأيام أو الساعات القليلة القادمة كفيلة بالإجابة على هذه التساؤلات التي ستحدد وجهة القضية الفلسطينية خلال المرحلة القادمة.