التعليم المهني: رؤية وتخطيط

تحسين يقين.jpg
حجم الخط

يشهد التعليم المهني والتقني في بلادنا تطوراً ملحوظاً، حيث تركّز وزارة التربية والتعليم العالي على الارتقاء به، وهناك وثيقة هامة أعدتها الوزارة، تتميز بكونها استراتيجية وعملية، سنعود إليها قريباً.
قول على قول، في الفهم والمقارنة ما يفيد؛ ولا ضير أن يعتمد مقالي هذا على مقال آخر علمي مركّز.. لثوماس ر. جوسكي، لعلنا نضيف شيئاً.
قراءة مقال جوسكي يشجعنا على الاستفادة من تجارب الآخرين، لكنه يؤكد من ناحية أخرى على ضرورة مراعاة تجارب الآخرين، وخصوصياتهم المهنية والتعليمية، وما أنجزوه، ضمن نظام تعليم عام وتعليم مهني يختلف كثيرا عن حالتنا الفلسطينية والعربية بشكل عام.
يؤكد المقال على التخطيط في مجال التعليم المهني، بالتوازي مع الأهداف، والذي مهد له بمشهد من فيلم سينمائي هو نادي الإمبراطور، للإشارة إلى أن المخرجات التربوية - المهنية هنا تعتمد على البدايات والعلاقات وما يقوم به الطلاب في المدرسة.
ثم تراه يبدأ في عرض فكرته، التي ترى أن هناك ضرورة لمجتمعات التعلم المهنية التي يتم فيها الاتصال الإنساني بين المعلمين والطلبة، والتي تتكامل مع الأشكال التقليدية للتعليم المهني كالندوات والورشات والمؤتمرات والإرشاد.
مدخل جوسكي للتخطيط المهني يأتي عبر استعراض تاريخ التعليم المهني، التي من خلالها تم التأكيد على الخبرات، كما يستفيد الباحث هنا من خبرات آخرين في هذا المجال.
ولربما استطعنا تلخيص المقال النقدي أيضا أن هناك ضرورة لتخطيط التعليم المهني بالاعتماد عما نريده من إنجازات.
(خبرات التعلم المهني الفردية والجماعية ضرورية) وهذه بالطبع تتجاوز المناهج والكتب والأشكال التقليدية السائدة. حيث بإمكان الممارسين تطوير أنشطة ذات نوعية عالية.
وهذا يوحي أن عملية تطوير وتخطيط التعليم المهني يجب أن تكون في العمق لا في السطح.
لقد راح الكاتب يحلل ويوضح ما ذهب إليه من رأي، حيث يرى أن المعلمين يركزون على المشاريع وتطبيقات التكنولوجيا والمصادر كالمواد والوقت وغيرها؛ دون الالتفات إلى النتائج، حيث يرى ان ما ينقصهم هو الفكرة الواضحة للهدف أو الغرض للأنشطة.
يورد الكاتب 5 أنشطة كان يدعو لها من قبل عند تقييم أنشطة التطور المهني، وهي:
ردود فعل المشاركين.
تعلمهم للمهارات والمعرفة.
دعم المؤسسة؟
توظيف المعرفة والمهارات.
مخرجات التعليم.
ثم يخلص ثوماس جوسكي لاقتراح طريقة بديلة، تقوم على عكس هذه المراحل والأنشطة، ليتم البدء بالتركيز على المخرجات، ثم الممارسات، فدعم المؤسسة، ثم معارف ومهارات المعلمين، وأخيرا أنشطة التعلم المهنية المثلى.
يفصّل الكاتب تلك النقاط الخمس.
ولعلنا نركز على بند المخرجات المرغوبة، وما رآه من أهمية تحليل بيانات الطلاب ومشاكلهم السلوكية، إضافة لأهمية المشاهدات الصفية والمجموعات البؤرية، مع مراعاة خلفيات الطلبة ومستويات القدرة، ويدلل على ذلك بأن اختلاف أساليب التعليم تؤثر على ردود فعل المخرجات.
أما أبرز ما يخلص إليه الكاتب هنا هو اختلاف التقييم، فبينما يهتم الإداريون بالتقييمات المعيارية، باعتبارها مؤشرات صادقة على التعليم، فإن المعلمين أكثر اهتماما بنتائج التقييمات الصفية، والمشاهدات الصفية وإتمام الواجبات البيتية، والمشاركة في الصف. ويخلص إلى ضرورة تحقيق تعلم فعلي للطلاب.
في البند الثاني "ممارسات جديدة"، نستشف من المقال ضرورة البناء على خبرات ومعلومات وعلم لا فقط الارتجال. حيث راح الباحث أيضا هنا يسأل أسئلة محددة عن الممارسات والنتائج والسياقات والدليل، داعيا إلى البحث عن الخبراء والمصادر.
البند الثالث (دعم المؤسسة) نلخصه بما استنتجه هو، بأن جهود التطوير تفشل إذا لم يكن هناك دعم من المسؤولين.
معرفة ومهارات المعلمين هي البند الرابع، وهو ما على المخططين القيام به، من أجل توظيف المعلمين لتلك المعارف والمهارات في التعليم. ومنها النصح بتعليم الطلاب من خلال تغذية راجعة التي تساعد الطلاب للتعلم من أخطائهم.
أما أنشطة التعليم المهني، وهي البند الخامس، فهي سؤال يحتاجه المخطط أيضا. وهو هنا يعمق ما بدأه من ضرورة وجود مجتمعات التعلم المهنية التي يتم فيها تبادل الخبرة، من خلال الأبحاث الإجرائية ومجموعات الدراسة وأنشطة فردية وجماعية، والتي تتكامل مع الأساليب الأخرى كالندوات والورشات.
ويراعي الكاتب هنا أن أي قرار يتخذ على كل مستوى من النقاط الخمس السابقة، يؤثر على كل من يتخذ القرارات في المستوى التالي. كما ينصح بشكل علمي مراعاة سياقات الطلبة التعلمية المختلفة، فما يلائم هنا قد لا يلائم في مكان آخر.
إن التخطيط المهني المقترح من المخطط المهني توماس جوسكي، هو الذي يبدأ من المخرجات التي نريدها، وهي التي تدفعنا إلى اختيار الممارسات الجديدة للتنفيذ، على ضوء الأهداف، ومعرفة دعم المؤسسة، ومعرفة المعارف والمهارات المطلوبة من المعلمين، والأنشطة التي تحقق المعرفة والمهارات.
وهنا يعود إلى التذكير بأن النجاح في النهاية يعتمد على البداية. وهو ما ذكره حول الفيلم المذكور.
وأخيرا ينتقد الكاتب مرة أخرى أسلوب التقييم التكويني الذي سبق انتقاده، ولكن من خلال دراسة حالة يثبت من خلالها، أن الطلبة ينفرون من الاختبارات العادية ويخشون إعادتها، لذلك فإن اللجوء لتقديم أنشطة إثرائية ومنها ما هو معد للموهوبين، في ظل اختيارات الطلبة لتلك الأنشطة. والنتيجة كانت تحسّن الطلاب في التقييمات التكوينية والاختبارات النهائية. ومما ساعد في وصول المعلمين لهذه الأساليب هو تبادل الخبرات عبر التواصل من خلال تكنولوجيا المعلومات.
كانت لغة النص واضحة وجذابة ومشوقة، أما المنهج فكان منظما، تسلسل الكاتب بأفكاره بشكل انسيابي لإيصال فكرته، مكنتنا من الفهم، والمقاربة مع حالتنا.
ترى، هنا في بلادنا ما الأسئلة الممكنة التي يمكن طرحها؟
هذه بعضها:
ما مدى التطابق والاختلاف بين بيئة جوسكي وبيئتنا الفلسطينية في التعليم المهني؟
هل للتعليم المهني العملي نظام تربوي في الأساليب يختلف عن التعليم العام؟
مدى الاستفادة من اقتراح جوسكي؟
هل يمكن تطوير نظام التقييم الفلسطيني في التعليم المهني والتقني؟
وأسئلة أخرى في بال آخرين، خبراء ومسؤولين وأكاديميين بل ومهنيين.
لا شك أن مقترح جوسكي في التخطيط المهني، بما يشتمل فيه أيضا من اقتراح حول زيادة دافعية الطلبة تجاه الاختبارات، فيه من العمق التربوي - والمهني الكثير.
فهو من جهة، بنى اقتراحه على المخرجات المهنية من نظام التعليم، أي من خلال التعليم المتمركز على الطالب، كيف نريده؟ وماذا يفترض وجوده من كفايات مهنية تحقق هدف التعليم المهني؟
وهو القادم من بيئة صناعية، عرفت طريقها، استطاع تحديد هدف التخطيط المهني، وهو الاهتمام بالمخرج نفسه، كي يكون خريجا مهنيا قادرا على القيام بعمله، بحيث يكون عمليا مستندا لمعارف، من خلال اكتسابه المهارات اللازمة والتي تعلمها خلال ممارسته للأنشطة.
وعليه، فإننا نزعم بأن مقالته فيها من الوعي المستند للتفكير النقدي، حيث استطاع الكاتب بشجاعة أن يغير من تفكيره، فيترك النمط السابق، ويتبنى النمط الجديد المتمركز حول الطالب.
إنها مادة علمية في التخطيط للتعليم المهني الذي نحتاج إليه في فلسطين، والتي يجب أن تصل إلى المخططين المهنيين في وزارة التربية والتعليم العالي، ووزارة العمل، والغرف الصناعية، والقطاع الخاص، ومؤسسات التدريب، والجامعات.
لا شك أن هناك اختلافات بين البيئتين المهنيتين، ولكن في ظل هذه الاختلافات هناك إجماع على ضرورة الاهتمام بالمخرجات التربوية في التعليمين العام والمهني، صحيح أن التعليم المهني واسع في الخارج ومحدود هنا، إلا أن ذلك يدعونا إلى زيادة المدارس المهنية، وتطويرها.
ويأتي التخطيط في التعليم المهني في فلسطين مقترنا بالتعليم العام والعالي، ولكن من المناسب والضروري مراعاة خصوصية التعليم المهني كونه يركز على مخرجات عملية لا نظرية، فللتعليم المهني العملي نسق تربوي في الأساليب يختلف عن التعليم العادي في المدارس الذي ينحى منحى نظريا.
لذا يصير لازما أن نطور نظم التقييم حتى لا ينفر الطلاب. ويمكن في هذا السياق اللجوء لتقديم أنشطة إثرائية من المعلم للطلبة، وعمل الطلبة، أو ربما اعتماد تقييمات العمال المهرة والفنيين والمهندسين للطلبة أثناء تدربهم في سوق العمل.
نزعم هنا أن مناقشة مقترح جوسكي سيفيد ليس فقط في التخطيط المهني بل في التخطيط للتعليم العام والعالي أيضا.
فالتخطيط هنا اعتمد على التفكير، للبحث عن أفضل الطرق للنهوض بقطاع التعليم المهني في العالم المتطور، فكيف هو الحال لدينا ونحن في بداية الطريق؟
نحن في أمسّ الحاجة للاستفادة من جهود الآخرين لنبدأ من حيث انتهوا، لنختصر علينا الوقت والجهد.
والمطلوب من المخطط المهني العودة إلى الأهداف لتكون واضحة، عندها يتم النظر إلى المخرجات المتوقعة، وكيف يمكن تطويرها، من خلال تفكير علمي ومنطقي وفقا للنقاط الخمس المرتبطة ببعضها، والتي يؤثر أي قرار على أي نقطة فيها على المستوى اللاحق.
وفي الختام، يبدو أن هناك ضرورة لتبادل الخبرة بين المخططين المهنيين، تماما كما يفعلها المعلمون فيما بينهم، لأن لذلك ضرورة، مع مراعاة للسياقات والظروف الاقتصادية والتعليمية، بين بلد نسبة التعليم المهني فيه لا تتجاوز الـ 3%، وبلاد أخرى يصل فيها إلى النصف.
ونحن كطلبة، نتوقع أن تتشارك الحكومة والقطاع الخاص في تحديد الأهداف فيما يتعلق بالخريجين، والذين هم دينامو الصناعة والمجالات المهنية. لذلك فإن التعاون بين الأطراف سيكون بحد ذاته فرصة للنظرة المتكاملة تجاه المخرجات، والتي من خلالها يتم تطوير النقاط الأربع التي ذكرها جوسكي: اختيار الممارسات الجديدة للتنفيذ، على ضوء الأهداف، ومعرفة دعم المؤسسة، ومعرفة المعارف والمهارات المطلوبة من المعلمين، والأنشطة التي تحقق المعرفة والمهارات.
وأخيرا، لعلنا نكون قد أضفنا من خلال ما أنرناه من جوسكي، ومن خلال قراءتنا التربوية، بقصد توطينها.