الإنسان بين زمنين (2-2)

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

انتهت الحرب العالمية الثانية بحصيلة فاقت الستين مليون قتيل، وبحجم دمار فادح.. كانت مشاهد الخراب وأكوام الجثث كافية لتشكل صدمة في الوعي الإنساني، ليفهم العالم، ويرى بوضوح مدى عبثية الحروب وقدرتها على التدمير.
عشية انتهاء الحرب، تأسست هيئة الأمم المتحدة، بميثاقها الجديد، والمختلف عن ميثاق العصبة، وصار لها دور (ولو متواضعا) في درء الحروب، وحل النزاعات وتأمين الحماية للمدنيين من خلال قوات حفظ السلام، وتم التوقيع على اتفاقيات جنيف (1949)؛ بشأن الجرحى والمصابين، وبشأن رعاية أسرى الحرب وضمان حقوقهم الإنسانية، وبشأن حماية السكان المدنيين وقت الحرب، وبشأن اللاجئين والمهجّرين. 
وتم تأسيس المفوضية السامية لحقوق الإنسان، والعديد من الهيئات الدولية التي تعنى بهذا الموضوع من مختلف جوانبه، بهدف مكافحة العنصرية والتمييز، وإنصاف المرأة والطفولة، ودعم الفئات الضعيفة والمهمشة، والأشخاص ذوي الإعاقة.
كما تشكلت "اليونيسكو" لرعاية الثقافة والعلوم وصون التراث الإنساني، و"اليونيسيف" لرعاية الطفولة، ومحكمة العدل الدولية لفض النزاعات بين الدول، والعديد من المنظمات الدولية الأخرى المتخصصة بمجالات الزراعة والغذاء والصحة والعمل وغيرها. كما تأسست منظمات أهلية عابرة للحدود، مثل منظمة العفو الدولية "أمنيستي"، و"هيومان رايتس ووتش"، و"أطباء بلا حدود"، و"مراسلون بلا حدود"، والعديد من حركات التضامن الدولية، التي عادة ما تصطف إلى جانب الشعوب المقهورة والفئات المضطهدة والمظلومين.
وفي مجال التضامن الإنساني والتدخل وقت الكوارث، زادت أهمية ومسؤوليات منظمتي الصليب الأحمر والهلال الأحمر، وصار من المألوف جدا أن ترسل الدول الغنية معونات مادية وفرق مساعدات لإنقاذ أي منطقة تعرضت لأي كارثة طبيعية.
وفي المجال الرياضي، بات التنافس بين الفرق الرياضية والمنتخبات الوطنية بديلا عن الحروب والصراعات، وصار المونديال والألعاب الأولمبية والمسابقات الرياضية من أهم الأحداث التي تسترعي انتباه وشغف الشعوب.
الإعلام، بعد أن كان رسميا ومقيدا، تحتكره الحكومات، أُفلت من قبضة الرقابة، وصار بإمكان أي مواطن أن يصبح مراسلا صحافيا، وأن ينقل الحدث لكل العالم وقت حدوثه، وهذا التطور الكبير أثر بصورة إيجابية على تشكيل الرأي العام، وسلَّط الضوء على معاناة الشعوب، وقيَّدَ أيدي الأنظمة في قمعها وممارساتها التعسفية.. وبفضل التطورات التقنية المذهلة في عالم الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا المعلومات تقلص العالم أكثر، حتى صار أشبه بالمجتمع الصغير.
وفي موضوع البيئة، بحث العالم قضايا التغير المناخي، التلوث، التصحر، الاحتباس الحراري.. لأول مرة بشكل جدي وعلى مستوى الحكومات، في مؤتمر الريو العام 1992، الذي انبثقت عنه اتفاقية كيوتو. بالإضافة لنشوء العديد من منظمات وأحزاب السلام الأخضر، في العديد من دول العالم، خاصة في أوروبا.
وفي مجالات الزراعة والتنوع البيولوجي والأمن الغذائي العالمي؛ تأسست منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، و"هيئة الموارد الوراثية" وأقرت المعاهدة الخاصة بالتنوع الأحيائي (CBD)، لضمان استعمال الموارد الوراثية بصورة منصفة وعادلة بين الشعوب.
ويمكن ذكر أمثلة إضافية في مجالات التشريعات، والقوانين، والتخطيط، وتأسيس المنظمات والهيئات العالمية، وإبرام المعاهدات الدولية، وأشكال التعاون الإنساني، وعقد المؤتمرات العلمية والمتخصصة في شتى المجالات، التي من شأنها وضع الإطار القانوني والتشريعي والأسس النظرية والموضوعية لتنظيم حياة سكان الكوكب، وتسهيل حياة الناس، وضمان أمنهم ورخائهم، وتعزيز الروابط الإنسانية، وإيجاد الحلول للمشاكل المستعصية والمستجدة التي تهدد مصير العالم، ومستقبل الإنسانية.. لكن هذه كله لا يكفي؛ لأنه وبالرغم من كل ما ذُكر؛ ما زالت دول كثيرة تعاني من الحروب، والمجاعات، والأوبئة، ومشاكل الفقر والبطالة، والمشردين، والمهجرين من أوطانهم، والاحتلال، والنزاعات الأهلية، والتمييز العنصري، والظلم، والاتجار بالبشر، والمخدرات.
أوروبا، التي كانت مصدر الفكرة الاستعمارية والعنف والعنصرية، هي التي قادت هذه التغيرات التي ذكرناها في مجالات تأسيس المنظمات الإنسانية وإقرار المعاهدات.. وكانت هي أول من قطف ثمارها، فأخذت تنعم بالأمن والاستقرار، والرخاء، والسلم الأهلي.. ولم تعد تعاني من الحروب والنزاعات الداخلية، والسلطة صارت تتداولها الأحزاب السياسية بطريقة سلسلة، وصار فيها صحافة حرة، وجهاز قضائي قوي ومستقل، ومدنها عادة ما تحتل المراتب الأولى في قائمة أفضل الأماكن للسكن وفق معايير معينة. وطبعا، ودون شك، تعاني هذه الدول من مشاكل كثيرة مثل البطالة، والمهاجرين، والتطرف، والمخدرات، والجريمة المنظمة وغيرها، وتتفاوت في ذلك بين دولة وأخرى.
والمدهش، أن أبناء وأحفاد (وأحيانا هم أنفسهم) من تلطخت أياديهم بالدماء، وتورطوا في أبشع جرائم الحرب، ومن كانوا يمارسون العنصرية، واستعباد الشعوب الأخرى في السنوات الغابرة، هم الآن أناس مختلفون كلياً.. بالمفاهيم والأخلاق والسلوك والنظرة للغير، كما لو أن الحقبة الماضية بالنسبة لهم مجرد ذكريات بائسة عن حقبة مظلمة، أخطأ فيها الجميع، ويريدون أن ينسوها، ويجعلوها من خلفهم. وهذا التغير لم يتشكل فجأة، بل احتاج سنوات طويلة من العذاب والمعاناة، تغيرت خلالها الظروف الموضوعية المحيطة (نتيجة الحروب)، تغير الواقع الاقتصادي، وتغيرت الأنظمة والقوانين، ثم تغيرت المفاهيم والثقافات، وبالتالي تغيرت الأنماط السلوكية، والتكوينات النفسية. ولضمان ثبات هذه التحولات في الاتجاه الإيجابي، تضمنت الأنظمة آليات الرقابة والمساءلة والشفافية.
بينما دول أخرى، خاصة في إفريقيا، آسيا، أميركا اللاتينية، والبلدان العربية والإسلامية.. ما زالت تعاني من الفقر والتخلف والتلوث والفساد والقمع السلطوي، ولا نسمع عنها إلا أخبار الحروب والدمار، والتفجيرات، والصراعات المذهبية، والفتن الطائفية، والانقلابات الدموية.
على مستوى العالم، بالرغم من استمرار مسلسلات القتل، والظلم، واضطهاد الشعوب، والحروب الأهلية والإقليمية، إلا أنه في ثنايا هذا النظام، وخلال العقود الماضية بدأت معالم تغيرات مهمة جدا، بل وتشكلت الكثير من تجلياتها بوضوح، والتي من المؤمل أن تفتح بوابات على المستقبل، وعلى عالم جديد خال من الحروب والنزاعات، ومن كافة أشكال الظلم والعنصرية.
والخلاصة، أن البشرية قطعت أشواطا مهمة في مسيرتها نحو التحضر والإنسانية، من خلال الشواهد التي ذكرناها، ولكنها لم تبرأ تماما من أمراضها وجنونها.. وهي بحاجة للكثير من الوقت والنضال حتى تصل إلى المستوى المأمول، ذلك لأنها في مسيرتها تلك تتجاذبها قوى كثيرة، منها ما يدفعها نحو المستقبل، ومنها ما يشدها للماضي.