تسريب عقارات القدس لن يُحل بلجان التحقيق!

عبد الناصر النجار.jpg
حجم الخط

على الرغم من نصاعة مسيرة شعبنا الثورية، ونضاله على مدى عقود، وتقديمه آلاف الشهداء ومئات آلاف الجرحى... بحيث أضحت كل ذرة تراب من هذه الأرض مرويةً بدماء أخيارنا، فإن في صفحات تاريخنا البيضاء أكثر من نقطة سوداء تلطّخ تاريخنا ومستقبلنا، لم تبدأ اليوم، ولكنها بدأت مع انطلاق مسيرتنا الوطنية.
ومن بين هذه النقاط السوداء تسريب العقارات والأراضي ابتداءً من عشرينيات القرن الماضي إلى يومنا هذا.
الحركة الصهيونية استخدمت كل ما يمكن استخدامه للسيطرة على الأرض.. وقد تمكنت في بداية القرن الماضي عبر الوصول إلى بعض ضعاف النفوس، من الخائنين لشعبهم، من الاستيلاء على مساحات من الأرض هنا وهناك، وإن كانت هذه المساحات محدودة جداً جداً، فإن الحركة الصهيونية كانت تعي أهمية الاستيلاء على كل شبر من هذه الأرض.
بعد العام 1967 نشط الاحتلال في الاستيلاء على الأراضي من خلال العملاء والمتعاونين مع جلادي الشعب الفلسطيني، لكنه لجأ في كثير من الأحيان، أيضاً، إلى عمليات التزوير، بما فيها تزوير الملكيات وتزوير التواقيع.
القدس المحتلة كانت الأكثر عرضةً للهجمة الاستيطانية، لكنها هجمة مخططة من الحكومة الإسرائيلية وجمعيات المستوطنين وأثرياء الحركة الصهيونية، مع ملاحظة أن الاستيلاء على العقارات المقدسية مهم للحركة الصهيونية مهما بلغ الثمن، وقد أكد كثير من المقدسيين الشرفاء أن سماسرة الخيانة كانوا يعرضون عليهم شيكات مفتوحة مقابل بيع عقاراتهم في البلدة القديمة وفي منطقة سلوان بشكل خاص.
مناسبة كتابة هذه المقالة هي استيلاء المستوطنين، أول من أمس، على مبنى كبير واستراتيجي في البلدة القديمة، يطل مباشرة على الحرم القدسي ويقطع التواصل بين حارات مقدسية في البلدة القديمة. 
واضح أن العقار قد جرى تسريبه من شخص أو أشخاص ليست لهم علاقة بهذا الشعب ونضاله ومقدساته، لكن هذه العملية وغيرها من عمليات التسريب ما كانت لتتم لو كانت هناك خطة فلسطينية واضحة للمراقبة والضبط والسيطرة وأيضاً العقاب.
في العام 1983، وفي صباح يوم شتوي، طلب مني صاحب جريدة «الشعب» المقدسية المرحوم محمود يعيش تغطية خبر استيلاء مجموعة من المستوطنين على منزل في حي «القرمي» في البلدة القديمة.
وصل الصحافيون إلى المكان، كان المنظر محزناً، عائلة بكاملها، الأب والأم والأطفال يبكون أمام أثاثهم الذي قذف خارجاً.. وقوات من شرطة الاحتلال تحمي مقتحمي المنزل.
يومها طُلب من صاحب المنزل التوجه إلى القضاء، كان متحمساً. لكنه بعد الجلسة الأولى لم يعد إلى المحكمة، لأنه كان قد باع منزله، فيما كان اقتحام المنزل وطرد العائلة ضمن عقد البيع، حتى لا يتم الشك فيه!.
في العام 1987 استولى رئيس وزراء الاحتلال الأسبق أريئيل شارون على منزل على مدخل شارع حي الواد، وهو الشارع الرئيس الموصل إلى المسجد الأقصى.
بعد الإعلان عن صفقة التسريب، حاول البائع إلصاق التهمة ببعض العائلات الضعيفة التي ظلت صامدة في غرف داخل «الحوش» المستولى عليه. أتذكر أنني تواصلت مع عائلة كانت تقيم هناك.. كان ذلك بعد ثلاثة أيام من استيلاء شارون على المنزل والاحتفال الرسمي الذي أقيم فيه.
إحدى العائلات المرابطة كانت عائلة فلسطينية مسيحية، عاشت أياماً سوداء من المراقبة والملاحقة من قوات الاحتلال، التي منعت خروجها أو دخولها لمنزلها بحرية.. أعلنت هذه العائلة أن المتصرف في المبنى هو من قام بالتسريب، كان عمره حينها نحو (80 عاماً)، مات بعد سنوات ولم يُصلّ عليه ولم يعرف أحد أين دفن.
في الانتفاضة الأولى كان من الصعب جداً تسريب أي عقار، ربما كانت تلك الفترة هي الفترة الذهبية التي تم الحدّ فيها من الاستيطان في القدس لأنه لم تشكل حينها لجان تحقيق، بل لجان عقاب، والسماسرة لم يجدوا قبراً يُدفنون فيه، فرميت جثثهم في صحراء أريحا، وواجهوا مقاطعة شعبية ووطنية.
لكن للأسف، خلال العقد الماضي تم تسريب عشرات العقارات وعلى رؤوس الأشهاد.. الأسماء معروفة والخائنون لشعبهم وأرضهم غير مهتمين، لأن لجان التحقيق وإن وصلت إلى نتائج فلا عقاب ولا حساب سوى كثير من البيانات.
أول من أمس، عدنا إلى الأحجية نفسها: من قام بالتسريب؟ الجدل يدور حول شخصين متهمين.. البعض طالب بلجنة تحقيق. السؤال: تحقيق لماذا وعن ماذا؟! فلا خير في لجان تحقيق لأننا لم نعد نثق بعشرات لجان التحقيق التي شكلت على مدار العشرين عاماً الماضية وفي مختلف المجالات.
المطلوب اليوم قرار فلسطيني وطني واضح بمنع البيع مطلقاً إلا عن طريق الأوقاف الإسلامية أو بمعرفة السلطة الوطنية وموافقتها، ومن يخالف يجب أن يتحمل وزر عمله.. إذا نفّذت العقوبة بصرف النظر عن الجهة المنفذة فإنها ستكون رادعة لكل ضعاف النفوس والمتآمرين.