لماذا يهربون من مواجهة إيران؟

عبد المجيد سويلم.jpg
حجم الخط

عبد المجيد سويلم

سؤال يبدو أنه ينطوي على الكثير من عناصر الريبة والشك، كما ينطوي بكل تأكيد على عناصر أخرى من الغموض واللبس وصولاً إلى حدود الإثارة والتشويق!
لماذا حشدوا الجيوش بكامل عدتها وعديدها ضد نظام صدام، ولفقوا وفبركوا واخترعوا من أجل الانقضاض عليه، في حين تتواتر الأنباء من أروقة القرار في واشنطن ولندن وتل أبيب، من خارج هذه الأروقة أيضاً بأن أحداً لا يفكر بالدخول في مواجهة عسكرية مع إيران.
فإذا كانت إيران تمثل كل هذا الذي تمثله من خطر على الأمن والاستقرار في منطقة تعتبر واحدة من أكثر مناطق العالم أهمية للاقتصاد العالمي ـ كما تدعي أميركا وحلفاؤها المقربين، وإذا كانت إيران لا تعمل سوى زعزعة الأمن والسلم في هذه المنطقة الحساسة من العالم، وإذا كانت "أكبر" راع للإرهاب على مستوى العالم كله...! فلماذا تحسم الولايات المتحدة أمرها، وكذلك بريطانيا وإسرائيل، باتجاه "البحث" عن حل أو مخرج سياسي وليس المواجهة العسكرية؟!
المؤكد أن أكثر من سبب يقف وراء هذا السر إذا جاز التعبير، والمؤكد أيضاً أن ظروفاً آنية مباشرة تحول دون الذهاب إلى قرار المواجهة مع إيران.
لكن الأمر المؤكد أيضاً أن قرار المواجهة مع إيران يعود لأسباب عميقة وكبيرة وليس لأسباب آنية ومباشرة فقط. وقرار المواجهة، أي الحرب ضد إيران ليس سهلاً على ترامب في نهاية الفترة "الأولى" من ولايته، إذ يخشى أن تمتد الحرب وتطول، ويخفق في تحقيق "نتائج" ملموسة وحاسمة، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى سقوطه المدوي، خصوصاً أن الرصيد الاقتصادي الذي "يتبجح" به يمكن أن يتبخّر في غضون عدة أسابيع فقط أو عدة شهور على أبعد التقديرات. كما أن حرباً من هذا النوع يمكن أن تمتد لتتحول إلى حرب إقليمية ليست تحت السيطرة التامة، وليس بمقدور أحد لجمها عند حدود بعينها. أما بريطانيا التي لم تعد عظمى بأي حال، فإن دخولها إلى هكذا حرب مسألة بعيدة أن تكون مقنعة إلا من زاوية اللحاق، إن لم نقل اللهاث وراء الولايات المتحدة، كما أن المعارضة العمالية فيها تتوثب للقفز على مقاليد السلطة من دون حروب أو أزمات إضافية، فكيف سيكون عليه الحال لو أضيف إلى سجل أزمات لندن حول الخروج من الاتحاد الأوروبي أزمة بحجم حرب طاحنة مرشحة لأن تكون إقليمية، وقد تتعدى من زوايا معينة البعد الإقليمي نفسه؟
وأما إسرائيل فقد ثبت بالملموس وبالدليل القاطع أن "حربها" مع إيران محكومة بالقرار الأميركي، وأن كل ما قيل ويقال حول "قدرة" إسرائيل للذهاب إلى حرب منفردة ضد إيران إنما هو لغو ساذج ولا يمت للواقع بصلة. لكل في ظل هذه الأسباب الآنية والمباشرة يتعذر اتخاذ أي قرارات بالحرب على إيران.
والسؤال هنا: لو أن كل هذه الأسباب الآنية والمباشرة قد أزيلت من الواقع السياسي، فهل كانت هذه البلدان الثلاثة جاهزة للذهاب إلى حرب ضد إيران؟
الجواب: أبداً. لن يكون بمقدورهم اتخاذ قرار الحرب إلا إذا كانت كلفة الحرب أقل من كلفة عدم خوضها.
في الحقيقة، إيران لا تشكل أي تهديد إستراتيجي للولايات المتحدة، ولا لمصالحها المباشرة لا على مستوى الإقليم، ولا على مستوى منطقة الخليج، وطبعاً لا تشكل إيران أي تهديد لمصالح الولايات المتحدة على المستوى الكوني الشامل. فالحرب على إيران ليست "ضرورية"، وهي ليست مسألة حياة أو موت وهي قابلة للتفادي والتجنب، ويصعب بل يستحيل بناء تحالف دولي فعال ضد إيران كما حصل مع العراق.
ويمكن للولايات المتحدة، ومن خلفها بريطانيا إلى حد ما، ويمكن لإسرائيل أيضاً أن تعقد مع إيران صفقة جديدة حول برنامجها النووي، وحول دورها الإقليمي، ويمكن أيضاً أن تكون محصلة هذه الصفقة في مصلحة إيران، ومصلحة الولايات المتحدة بصورة أو بأخرى.
لكن الشيء المؤكد أن صفقة من هذا النوع ستكون على حساب إسرائيل وتركيا وبلدان الخليج العربية.
الصفقة إن تمت ستلجم إيران، ولكنها ستلجم أكثر إسرائيل، وستمنع بلدان الخليج العربية من كل الخيارات البديلة التي تفكر بها هذه البلدان لضمان أمنها واستقرارها.
باختصار، الصفقة بين الولايات المتحدة وإيران إن تمت ستكرس الدور الإيراني كلاعب رئيسي في الخليج، وستضع البلدان العربية في الخليج كموضوع للأمن الإقليمي وليس كذات خاصة لهذا الأمن.
والصفقة إن تمت ستكرس إسرائيل كلاعب رئيس في المنطقة المحيطة بإسرائيل، لكنها ستلجم طموحاتها الشرق الأوسطية الشاملة.
والصفقة إن تمت ستحوّل تركيا من دولة إقليمية إلى دولة ذات أفضلية نسبية بالتعامل مع الوضع السوري، والوضع القبرصي اليوناني في أبعد الحدود.
والصفقة إن تمت ستبقي مصر خارج نطاق التأثير المباشر على مسار أحداث الإقليم، وأبعد ما سيكون الدور المصري في مثل هذا الواقع هو الدور الفعال بقيادة مسارات التطورات في كل من ليبيا والسودان، دون الوصول إلى دور محوري إفريقي شامل، ودون أن تكون مصر قادرة على منع إثيوبيا من بسط سيطرتها على منابع النيل، والتحكم بقدر كبير بالمياه القادمة من تلك المنابع.
وباختصار أيضاً الصفقة مع إيران لا تشكل خسارة كبيرة للولايات المتحدة، ولا لبريطانيا ولا لعموم الغرب.
وبعض مظاهر "التمرد" الإسرائيلي على صفقة من هذا القبيل هي مسألة مربوطة ومرهونة بالتطورات والتحولات السياسية في إسرائيل، والعامل الأيديولوجي الأرعن يلعب دوراً كبيراً في بروز هذه "التمردات".
لقد فقدت تركيا القدرة على تجاوز الحدود التي أشرنا إليها، وهي مجبرة على العودة إلى سياسة (صفر مشاكل) لأن الحزب الذي يحكم تركيا اليوم بدأ بالتحلل والتفكك، والاقتصاد التركي يتراجع بصورة ملحوظة، وكل مسألة الأكراد قابلة للحل إذا ما كانت تركيا مهتمة بالعودة إلى دورها "المتواضع" المطلوب.
كلفة الحرب أعلى بألف مرة من كلفة الصفقة، وأخطار الحرب على إيران تقابلها خسائر كبيرة في صفوف خصومها، وأوراق إيران كثيرة وحساسة وليست من النوع الذي تحله القوة العسكرية.
لهذا كله إنهم يهربون من المواجهة.