هل يحضر الربيع العربي مرة أخرى؟

مهند عبد الحميد.jpg
حجم الخط

مهند عبد الحميد

عالمنا العربي يبدو أكثر من أي وقت مضى منقسما إلى عالمين: عالم الشعوب التي تترنح في أزمات متتالية تزداد حدتها بمرور الوقت.
ولا يسمح لها بالتعبير عن معاناتها وعن حاجتها إلى الخبز والعمل والتعليم والحرية والكرامة. بل  عليها التسليم بمكانها الذي حدده النظام النيو ليبرالي العالمي، مكان الفقراء الذين يزدادون فقرا. العالم الثاني هو عالم أنظمة حكم حولت الدولة بما هي صيغة مشتركة بين الحاكم والمحكوم من زاوية الالتزام بقواعد المواطنة وصون السلم الاجتماعي، إلى سلطة بوليسية، حولت المواطنة  إلى رعية تسمع وتطيع وتخضع.
هذه المعادلة التي جرى فرضها طول الوقت، أفضت إلى انفجار عالم الشعوب بعد نفاد صبره وقدرته على الاحتمال.
الذي أراد بوعي أو بعفوية تغيير قواعد العلاقة مع النظام من راعٍ ورعية إلى دولة ومواطنة وشراكة.
وأفضت في الجهة الأخرى إلى تكشير الأنظمة المستهدفة عن أنيابها وقيامها بتدمير الاحتجاج الشعبي ومعاقبة كل المطالبين بالتغيير يستوي في ذلك المعتدلون والعقلانيون بالمتطرفين والتكفيريون وأصحاب الأجندات الخارجية، جرى التعامل مع الكل كأعداء ينبغي سحقهم ومعاقبتهم ردا على تمردهم. الحسم بأي ثمن حتى لو أدى إلى دمار البلد، وبالاعتماد على حلفاء من الخارج أيضا.
الجزء الآخر من عالم الأنظمة صاحبة الثروات، ركب الموجة الشعبية المطالبة بالتغيير، وساهم في تحويل النضال السلمي الديمقراطي إلى صراع مسلح، من خلال الانحياز للثورة المضادة واستئناس المعارضة السلمية وفصلها عن الناس وأرض الصراع بدعم أميركي غربي، وكان يهمها الحفاظ على الأنظمة المستبدة بأي ثمن مع تغييرات طفيفة في شكل الحكم المستبد، أو استبدال نظام مستبد تابع بنظام آخر مستبد وتابع.
وكانت نتائج الجولة الأولى من ثورات الشعوب هي فشل الشعوب وانتصار النظام القديم باستثناء الحالة التونسية التي لم تصل إلى بر الأمان.
لقد جرى تحويل أهداف الشعوب من هدف انتزاع الحرية والديمقراطية وتأمين الخبز والعمل والحد الأدنى من العدالة، ووضع حد للديكتاتورية والفساد، ومحاكمة رموزها بأثر رجعي وإعادة الاعتبار للدولة المدنية.
أذيب هذا الهدف المشروع في المؤامرة الخارجية وفي هدف القضاء على الإرهاب ومنظماته. وفي المحصلة بقيت الأنظمة الحاكمة في سدة الحكم، وجرى التغاضي عن فسادها وجرائمها السابقة واللاحقة، مع الإشارة إلى أن جرائم التدمير والتهجير بالملايين في بعض البلدان ومئات الآلاف في بلدان أخرى، أصبحت نسيا منسيا، والأخطر أطبق الصمت على قتل الآلاف تحت التعذيب، وعلى الكم الهائل من المعتقلين الذين يعيشون في شروط غير إنسانية، وكل ذلك جاء على شرف الحرب ضد الإرهاب وضد المؤامرة الخارجية.
في الوقت الذي كانت فيه المنظمات الإرهابية تجتث النضال السلمي على الأرض، وفي الوقت الذي ساعد فيه "المتآمرون" على بقاء الأنظمة، ولم يطرحوا المس بها كأنظمة سياسية حاكمة، بل حافظوا عليها. لقد استبدل القذافي بقبائل متناحرة وبرموز من نظامه ولم يخضع هذا النظام للمحاكمة، وأصبح لا غنى لسورية عن بشار الأسد رغم كل الفظاعات والموت والدمار.
وألصقت تهمة الدمار والموت والخراب والتشرد وكل ما حدث من مصائب للربيع العربي أي لعالم الشعوب العربية.
وكان من الغريب تبني الأحزاب التي رفعت شعارات الحرية والديمقراطية والعدالة والتغيير مفهوم المؤامرة، ليس هذا وحسب بل وتتبرع بدعم أنظمة مستبدة وديكتاتورية، وتلوذ بالصمت إزاء التنكيل الذي تعرض ويتعرض له المشاركون في الثورات، منتقلة بذلك من خندق الضحايا إلى خندق قتلتهم.
وكان من الغريب أيضا خفوت إسهامات المستوى الثقافي والأكاديمي في تقييم ونقد ما جرى من سرقة الربيع والتنكيل بالمشاركين فيه.
قليلة هي المقالات والأبحاث والندوات التي تحاول نقد ما جرى وتطالب بمحاكمة الذين ارتكبوا جرائم حرب، واستخلاص الدروس وتلمس عناصر القوة.
وبقي صوت المنابر المدعومة من دول البترو دولار يحتكر النقد والتقييم من زوايا المصالح المتعارضة بين أقطابه الذين ساهموا في هزم الربيع العربي وتشويهه. 
ما بعد هزم الربيع في الجولة الأولى، وفي غياب عالم الشعوب وضعفه، وجد عالم الأنظمة ضالته في ترامب ونتنياهو، على خلفية التدخل الإيراني في أربع دول عربية.
كم كان رهان البعض على ترامب ونتنياهو خاسرا ومهينا ومكلفا! لقد ضخم الرجلان الخطر الإيراني، وتغنيا بأسلحتهما فائقة التطور وقدراتهما السحرية على الحماية، لتكون النتيجة صفرا وصمتا لا يقل سوءا عن الهزيمة.
كانت النتائج وخيمة حين لم تستطع الدولتان اللتان تقدمان حالهما كشرطي عالمي فائق القوة وشرطي إقليمي "سوبر باور"، لم تستطيعا تأمين حماية لأحد. ما حدث يعد تحولا جيوسياسيا خطيرا ويحتاج إلى قراءة عميقة.
وما بعد هزيمة الربيع العربي، أينع ربيع السودان، فخرج الشعب السوداني وقدم نموذجا مدهشا، مستخلصا الأخطاء وخطر العسكر والتدخلات الخارجية، وتمكن من إسقاط رأس النظام البشير الذي لم يستطع الصمود أمام إرادة شعب عظيم، ولم تنفعه المائة مليون دولار في قطع الطريق على سقوطه.
سقط البشير وتقلصت سيطرة العسكر بعد الاتفاق الذي أتى بمجلس انتقالي أغلبيته من المدنيين، وأعيد الاعتبار للربيع العربي.
وأينع الربيع العربي في الجزائر عندما أعاد الشعب الجزائري الاعتبار لثورته الأولى مؤكدا أن التغيير الديمقراطي ممكن، فلم يجدد لرأس النظام وقطع الطريق على ألاعيب العسكر ومضى ينتزع حريته وكرامته التي أهدرها العسكر.
أكدت التجربتان السودانية والجزائرية أن لا خيار أمام الشعوب العربية غير تقرير مصيرها بنفسها، وأن سيطرة نظام مستبد وفاسد ليست قدراً لا فكاك منه ولن تدوم إذا الشعب يوما أراد الحياة.
ما جرى في الجولة الثانية من الربيع العربي من اختراقات ونجاحات في عالم الشعوب العربية، وما حدث مع ترامب ونتنياهو اللذين يدخلان في أزمة حكم قد تطيح بكليهما.
تطوران مهمان ينبئان ببزوغ فجر جديد تعود فيه الشعوب إلى المسرح لتضع بصماتها على القرار، ويحتملان القول إن الشعب الفلسطيني ليس وحيداً.