محاولات عبثية لتمرير «صفقة القرن»

حجم الخط

بقلم:د. مصطفى الفقي

 

إن كثيراً من الممارسات التي تتم في الفضاء العربي الراهن، سواء في منطقة الخليج أو المشرق العربي أو مصر أو ليبيا هي كلها ضغوط متوقعة لتصفية القضية الفلسطينية.

كنت دائماً أتجنب الوقوع فريسة لفكر المؤامرة ونظرياتها المختلفة.. نعم إن رائحة المؤامرة تبدو في كثير من أحداث التاريخ الكبرى، مثل سقوط الدولة العثمانية التي تكالبت عليها الدول الأوروبية في لحظة ضعف الخلافة وانهيار السلطنة، كما أنني أظن أيضاً أن سقوط الاتحاد السوفييتي والمنظومة الشرقية لا تخلو هي الأخرى من روح المؤامرة التي دقت فيها حركة التضامن في بولندا أول مسمار في نعشها، كما تردد أن البابا يوحنا بولس لم يكن بعيداً عن الجهود التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومته، كما أظن قبل ذلك أن اغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي كان مؤامرة معقدة، فلقد قُتل القاتل المشتبه فيه، وقتل من قتله حتى إن «لجنة وارين» التي تشكلت للبحث في تلك الجريمة الغامضة لم تصل هي الأخرى إلى نتائج قاطعة في هذا الشأن، لأن المؤامرة الجماعية تكون أكثر تعقيداً، بحيث يتفرق دم الضحية بين القبائل، ويظل الحديث في الأمر طريقاً من اتجاه واحد، فقد يكون اليمين الأمريكي المتطرف أو الجماعات العنصرية أو حتى اللوبي اليهودي وراء اغتيال كينيدي، ولكن لا نستطيع أن نجزم بشيء في هذا الأمر، ولا يخالجني شك أيضاً في أن مصرع الأميرة البريطانية ديانا في أحد أنفاق مدينة باريس قد يكون هو الآخر جريمة مدبرة ومؤامرة محبوكة، بل إن البعض يشتط مستفزاً الشعور العام الأمريكي عندما يردد أن أحداث ال 11 من سبتمبر / أيلول 2001 هي أيضاً مؤامرة محكمة الأبعاد. والخلاصة هي أننا لو بحثنا وراء أي حادث كبير أو موقف مفاجئ لوجدنا أن شبهة المؤامرة قائمة. ولكن دعنا نعترف بأن الاستسلام لهذه المعادلة أمر يفضي إلى نتائج سلبية للغاية، لأنه يجعل من نظرية المؤامرة وكأنها المشجب الذي يعفي الجميع من ردود الفعل، لأن رائحة المؤامرة تفوح من الفعل الجاري، ولا سبيل لإنكار ذلك!

إن كثيراً من الضغوط التي تمارس على الدول العربية، وفي مقدمتها مصر هي ضغوط متعمدة لإضعاف تلك الدول حتى تستسلم أمام الأفكار الغامضة لما يسمى «صفقة القرن»، وهو أمر جرى الإعداد له منذ سنوات، بل أظن أن ما يسمى «الربيع العربي» الذي اندست فيه عناصر أجنبية كان إحدى حركات التآمر على الشعوب العربية للوصول إلى الهدف النهائي، وهو تركيع المنطقة وإخضاعها للنفوذ الأمريكي والهيمنة الإسرائيلية، لذلك فإنني أظن أن كثيراً من الممارسات التي تتم في الفضاء العربي الراهن، سواء في منطقة الخليج أو المشرق العربي أو مصر أو ليبيا، هي كلها ضغوط متوقعة لتصفية القضية الفلسطينية، وإيصال الوطن العربي إلى حالة من التبعية الدائمة بعد الانقضاض على موارده المادية واستنزاف مقدراته الطبيعية، وذلك درس تعلمناه، ووعيناه عبر السنين، ويهمني هنا أن أطرح ملاحظات ثلاث:

* الملاحظة الأولى: إن صفقة القرن هي مشروع غامض له أبعاد اقتصادية يراد منها أن تغلق الباب على الشرعية الدولية بدعوى تحسين أحوال البشر ورفع مستوى حياة الفلسطينيين في الأرض المحتلة، أي أنها رشوة مؤقتة ينسى بها العرب والفلسطينيون آمالهم الحقيقية وأهدافهم البعيدة، وهو أمر يستوجب التنبؤ الكامل والوعي الحقيقي بما يجري حولنا.

* الثانية: إن أهمية الشرق الأوسط من الناحية الجيوسياسية لم تعد كما كانت منذ عقدين من الزمان، بل تركزت الآن في الخطر القادم من الدولة الفارسية إلى جانب المواجهة الأمريكية مع مشروع طهران النووي، وذلك بإخراج إسرائيلي مدروس لا أظن أنه سوف يصل إلى حالة الحرب مع إيران، ولقد تعودنا في العقود الثلاثة الأخيرة أن الولايات المتحدة وإسرائيل تهددان إيران ثم تضربان العرب! إنه نمط خبيث من التآمر طويل المدى الذي يجب أن نستيقظ له وأن ندرك أبعاده.

* الثالثة: لقد بدا واضحاً أن البنيان التقليدي للمؤسسات السياسية والكيانات القومية التي عرفناها عبر العصور قد بدأت تتغير، لتخرج على المسرح قيادات لم يتم تدريبها سياسياً أو تربيتها شعبياً، ولعل أمثلة ذلك ترامب في أمريكا، وماكرون في فرنسا، إلى جانب نتيجة الانتخابات الرئاسية في تونس، وهي كلها مؤشرات تعزز رؤيتنا في هذا السياق.

لقد تأملت المشهد - مثل غيري - وأدركت أن دولة عربية مثل مصر إذا باعت مبادئها وتخلت عن ثوابتها، فإن حصارها الإعلامي والإرهابي ربما يتوقف، لأن لكل شيء ثمناً، ومصر لن تدفع الثمن هي أو أي دولة عربية أخرى من حقائق التاريخ ووقائع الجغرافيا. إننا أمام محاولات عبثية لجر المنطقة في طريق لا تؤمن عواقبه، ولا ترضى به الأجيال القادمة، فليس أمامنا إلا المضي في الطريق الذي بدأناه لتحرير الإرادة واستقلال السياسة وبناء الذات.

بالاتفاق مع "الخليج"