الانتخابات الفلسطينية: بين الضرورة والهيبة الوطنية

حجم الخط

بقلم: الدكتورأحمد يوسف

 

إثر الحديث عن الانتخابات باعتبارها استحقاقاً وطنياً لا بدَّ منه، للقفز على تعقيدات أزمتنا السياسية المستعصية، والتسريع لاستعادة وحدتنا الوطنية، والتمكين من تجاوز اختناقات عنق الزجاجة التي تعثرت كل محاولات إخراجنا منها، قام السجال بين الأطراف المتصارعة - ولأكثر من ثلاثة عشر عاماً - على تبادل الاتهامات والتجني وملاحقة كل طرف للآخر من خصومه السياسيين بأنه وراء أسباب الانسداد في أفق الخلاص واجتماع الشمل.

لقد ابهجتني الروح التي سادت خلال الأشهر الماضية بالحديث عن المبادرات لتحقيق المصالحة عبر بوابة الانتخابات، وإن كان التشاؤم ما يزال هو سيد الموقف.

إن المبادرة التي تداولتها الفصائل، واعطت معظمها الموافقة عليها، هي خطوة إيجابية وتحرك محمود أشبه بعملية نشر الأشرعة، والاستعداد للإبحار، بغرض الوصول إلى الهدف المنشود، والذي طال انتظارنا إليه.

لقد طرحت المبادرة الأخيرة (الرؤية الوطنية لتحقيق الوحدة وإنهاء الانقسام) التي وافقت عليها أغلب الفصائل الوازنة في الساحة الفلسطينية الكثير من النقاط الإيجابية التي يمكن البناء عليها، وترميم ما تصدَّع من جدار الثقة بين الجميع.. كما أن ما جاء في كلمة الرئيس محمود عباس في الجمعية العامة الأخيرة في نيويورك حول التوجه لإجراء الانتخابات ما يبعث أيضاً على التفاؤل والأمل.

وإذا ما تحققت التطمينات التي أشار إليها د. صبري صيدم حول هذه المسألة، فإن هذا يعني أن الأبواب أصبحت مشرعة لخوض غمار ذلك الاستحقاق الانتخابي، لتجديد وضعية الشرعيَّات التي تآكلت، وأصبحت محل تندر وجدل سياسي ومناكفات إعلامية، أذهبت – للأسف - بعافيتنا وهيبتنا السياسية على المستويين الإقليمي والدولي.

الانتخابات بين التشجيع والتلكؤ!!

إذا سألت أيَّ فلسطيني ما رأيك في الذهاب إلى الانتخابات، سيقول لك: "دخيلك خلصونا"، وهذا من وجهة نظري هو ما عليه المزاج العام في الشارع الفلسطيني، وربما كل فصائل العمل الوطني باستثناء طرفي الأزمة، وهما فتح وحماس، اللذان اعتادا وضع تحفظات وتعديلات على كل مبادرة يتم طرحها، الأمر الذي يؤدي - في النهاية - إلى وأدها.

إن الشارع الفلسطيني يئن ويتوجع ويستغيث من أجل تفعيل العملية الديمقراطية؛ لأن خياراتنا في التغيير والإصلاح لن يحسمها اليوم إلا اللجوء إلى صناديق الانتخابات، وتقديم وجوه وواجهات وطنية جديدة تمكننا من تجاوز حالة المراوحة في المكان، التي أنهكت الجميع، وأحالتنا للتيه وسط كثبان رملية لا تُسمع فيها نداءات الاستغاثة والخلاص.

إن الذي يعترض على إجراء الانتخابات بأي شكل أو مستوى كان إنما هو صاحب مصلحة أو مفسدة، ولا يبدو أنه يعيش مأساة الشارع الفلسطيني، ولا يسمع صرخات شبابه ومحاولات الكثيرين منهم مغادرة الوطن بأي طريقة، حتى وإن اكتنفتها الأخطار، واستدعت ركوب قوارب الموت أملاً بالنجاة إلى بلد آخر يمنحه مقومات العيش الكريم والحياة المفعمة بالأمل.

إن الانتخابات التشريعية اليوم عليها إجماع وطني، وإن كانت حركة حماس ترى أنه لا بدَّ معها من انتخابات رئاسية، وهذا لا اعتراض عليه، لكن المشكلة أن الرئيس محمود عباس والكثير من قيادات حركة فتح ربما لهم رأي آخر مخالف، فهم لا يمانعون بإجراء الانتخابات التشريعية، وبعدها يمكن المضي قُدماً باتجاه الاستحقاق الآخر وهو الانتخابات الرئاسية، وكذلك انتخابات المجلس الوطني.

ولعلي هنا اجتهد الرأي، بالقول: إن إجراء الانتخابات التشريعية هو الخطوة الأهم، لأن تشكيل مجلس تشريعي منتخب ديمقراطياً يعني القدرة على فرض تغييرات كثيرة في النظام السياسي الفلسطيني، وإضعاف لحجم السلطات التي بيد الرئيس، والتي تمنحه اليوم في ظل غياب المجلس التشريعي - بعد أن تمَّ حله - صلاحيات مطلقة، تبدو أمامها كل المؤسسات الفلسطينية عاجزة، وليست ذات أهلية!!

إذا بدأنا العملية الانتخابية بالمجلس التشريعي ووطدنا أركانه، فإن هذا سيمهد الطريق لما يعتبره البعض اليوم "العقبة الكأداة"؛ ألا وهي الانتخابات الرئاسية.

إن علينا المطالبة بالانتخابات، والتحرك من أجل إجرائها، قبل أن ينفجر المرجل المثقل بالضغط والغليان، ويجد الجميع أنفسهم أمام ما لا يُحمد عقباه.

لا شك بأن الجميع مأزوم، وليس هناك من هو أفضل حالاً من الآخر، والكل عالق فوق الشجرة، وجميعنا بحاجة إلى الانتخابات كسلم للنجاة أو طوقٍ للخلاص.

خطوة لا بدَّ منها؟

في سياق البحث عن مخرج أو حلٍّ لأزمتنا السياسية المعقدة، طرح البعض فكرة قد يسبق العمل بها الانتخابات، وتسهم في تمهيد الطريق لها بشكل أكثر سلاسة ويسر، وهي تشكيل "لجنة وطنية" تحمل روح المبادرة الأخيرة، والتي أجمعت عليها أغلب الفصائل الفلسطينية، وتكون مهمة هذه اللجنة التواصل مع الحكومة في رام الله ودعوتها للقدوم لاستلام الوزارات وكل المؤسسات الرسمية، والعمل على تذليل كل ما يمكن أن يعترض من عقبات، وبالتالي ينتقل الحوار من ثنائيات فتح وحماس إلى مربع الحكومة واللجنة الوطنية.

لا شك أن وجود حكومة متوافق عليها سيسهل الكثير من المهمات، ولكن لا بدَّ لنا من العمل لإنقاذ حالتنا السياسية من تداعيات الانهيار الكامل، والذي تتضح ملامحه يوماً بعد يوم.

كما أسلفنا، إن هذه اللجنة التي ستعمل بروح المبادرة الأخيرة التي نالت توافقاً وطنياً، هي كذلك وعبر تحركها مع حكومة اشتية ستهيئ الأجواء للذهاب لانتخابات تشريعية يصير معها بناء الثقة والاستقرار.

بعد ذلك، يمكن للمجلس التشريعي الجديد إصلاح وتجاوز كل عثرات السنوات العجاف التي غيَّبت قضيتنا، والقت بها في غياهب الجب وزوايا النسيان، عند الحديث عن الاهتمامات والأجندات الإقليمية والدولية.

نعم؛ قد يكون الحديث عن اللجنة الوطنية أو رأس الجسر الذي سيتمدد باتجاه رام الله مجرد فكرة يتم تداولها - الآن - بين عدد من الشخصيات الوازنة في السياق الوطني، ولكن الحديث عنها سيتوسع بالتأكيد خلال الأسابيع القادمة.