لا تختلف معالجات المجتمع الدولي لقضية اللاجئين السوريين عن مجمل معالجاته للكثير من القضايا والحروب والنزاعات التي نجم عنها تهجير الملايين من الضحايا منذ الازمة الأرمنية وما تعرض له الأرمن من مذابح إلى القضية الفلسطينية وما نجم عنها من إقامة دولة هجينة على أنقاض المدن والبلدان والقري الفلسطينية التي هُجّر أهلها عنوة. حين يعجز المجتمع الدولي عن فعل شيء، أو ربما حين تتواطئ أطراف فيه في تهجير السكان أو في خلق الأزمة والتسبب بالكارثة فإنه سرعان ما يذرف الدموع ويحول القضية بقدرة قادر إلى قضية إنسانية بحتة. خلف هذه الدموع تغيب الأسباب الحقيقية لهجرة الملايين وتصبح قضيتهم قضية إنسانية يجب إيجاد حلول إنسانية لها. وهذه الحلول تقتضي ضمن أشياء كثيرة توطين هؤلاء اللاجئين وإيجاد مسكن آمن لهم يقيهم الموت المحقق. هكذا يتم تحويل القضايا الكبرى إلى مجرد حلول صغيرة وتفاصيل دقيقة يجب التعامل معها ضمن السياقات المختلفة للأزمات، وربما ضمن السياق الخاص بعلاقة كل دولة مع هذه الأزمة. من هنا فإن الحلول المطروحة للتعامل مع أزمات اللاجئين تتوافق مع مواقف تلك البلدان من الأزمة ولكنها سرعان ما تأخذ شكلاً من ردات الفعل المنفردة التي تعبر عن نمو شعور مختلف في التفاعل مع الأزمة. هذا الشعور يوجد بدرجات مختلفة ويتم التعبير عنه ضمن مواقف مختلفة. وقد يقود في نهاية المطاف إلى التعبير عن موقف جمعي للمجتمع الدولي
حتى هذا الموقف الجمعي لن يكون إلا تضخمياً لمواقف الدول الكبرى وتعبيراً أكثر صراحة عنها. وبالتالي سيشكل، ودون أن يكون واضحاً، إضفاء شرعية على مواقف تلك الدول المتحكمة بزمام ومقاليد السياسة الدولية، وبالتالي يساهم أكثر في إعفائها من المسؤولية تجاه الجرائم التي تحدث، بل إنه، أي تبلور موقف جمعي، يضع الجميع في نفس القدر من المسؤولية حيث تصبح الدول جميعها تتحمل نفس القدر من المسؤولية التي شاركت القوى المتنفذة في المشهد الدولي في خلقها. وطبعاً كل هذا يتم تغليفه بالمزيد من العبارات الإنسانية والشفقة والرحمة التي تكاد تُنسي المرء أن ثمة أزمة سياسية، المجتمع الدولي شاهد عليها ومشارك فيها وعاجز او غير راغب في أن تجد طريقاً للحل.
وفي حالات كثيرة، فإن المجتمع الدولي بحاجة لصدمة من أجل لا أن يستيقظ (مثل قصة صورة الطفل السوري الغريق)، بل من أجل أن يلتفت أن عورته قد كشفت. الصدمة من باب ظهور القضية بشكلها البشع بطريقة قد تقلق ضمير مواطنيه أو توقظ المعارضات في برلمانات تلك الدول المتأهبة دائماً لالتقاط أي عثرة من أجل شن هجوم قد يأتي بها إلى الحكومة. ولكن أيضاً سرعان ما يتم الأخذ بتفاصيل تلك الصدمة من أجل إبراز الجانب الإنساني للأزمة، بل يتم تعميق النقاش لا حول الحل السياسي لها بل حول ضرورة وجود حلول إنسانية عاجلة.
لاحظوا مثلاً أنه في القضية الفلسطينية وبعد النكبة مباشرة وتأسيس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين كان القصد تحويل القضية الفلسطينية إلى قضية لاجئين هم ضحايا حروب إسرائيل (وكأن إسرائيل كانت موجودة قبل النكبة) والدول العربية حيث لم يكن هناك مكان في النقاش للسكان الفلسطينيين أصحاب الأرض. ولكن بفضل نضالات هذا الشعب وتضحياته ووجود منظمة التحرير الفلسطينية تم تفويت الفرصة على المجتمع الدولي وتحول هؤلاء اللاجئين إلى مقاتلين باحثين عن الحرية. إذ سرعان ما سيعترف المجتمع الدولي بأن المشكلة سياسية بامتياز وأن حلها لن يكون إلا بوجود ممثل لهؤلاء اللاجئين يتحدث باسمهم ويعبر عن طموحاتهم. وهكذا تقدم المجتمع الدولي دون أن يحاول دائماً إغماض عينيه عن الحقيقة نحو المطالب السياسية لهؤلاء اللاجئين.
ويمكن أيضاً ملاحظة كيف يتم تقزيم قضية العدوانات المستمرة على غزة ومحاصرة غزة وحرمان أهلها من المواد الأساسية ومن الدواء ومن السفر بسبب الحصار الغاشم المفروض عليهم، حيث يتم تقزيم المشكلة في غزة إلى تفاصيل إنسانية بحتة. بمعني أن مشكلة غزة ليست في الاحتلال الذي يجثم على صدرها، وهو مصدر كل كوارثها، بل في إدخال المواد الغذائية وربما فتح ممر مائي لن يكون أكثر من إيرز مائي وبالتالي تخفيف العبء عن السكان وجعلهم يعيشون حياة أقل قسوة. لأن من شان هذه الحياة أن تنسيهم أن مشكلتهم تكمن في وطن يبحثون عنه منذ تم نهب بلادهم وتشريدهم.
بالطبع النقاش السابق يشير إلى تعاطي المجتمع الدولي مع ازمة اللاجئين السوريين. ورغم أننا لابد أن نقدر هذا الموقف الذي بدر من ألمانيا وبعض الدول الأوربية في ظل عدم توجه أي دولة عربية لاستيعاب لاجئين سوريين رغم مساحات تلك الدول الشاسعة ونفطها الذي يصب في نهر واشنطن العظيم، فإن هذا أيضاً لا يعفي المجتمع الدولي من مسؤوليته عن الأزمة السورية ومساهمة أطرافه الكبرى من واشنطن إلى موسكو ومن سنة عالمه الإسلامي إلى شيعته. لا أحد برئ كما أن أحداً لا يفعل الصواب في مواجهة الأزمة. إن القصة تشبه حكاية الملك العاري، لكن الفرق أن الطفل غير موجود ليقول الحقيقة.
على المدى القصير من المهم التعاطي مع قضية ضحايا الحرب في سورية، لكن هذا وحده لا يكفي، إذ على المجتمع الدولي الذي ساهم في خلق الأزمة السورية أن يبادر إلى وضع الحلول المناسبة لها. لا أحد يعرف ما هو الحل المثالي لأن الحل المثالي هو أن يتم إقصاء كل أطراف المشكلة وإعادة زمام الأمور بيد قيادة يختارها الشعب السوري. ولكن كيف نصل إلى هناك، هنا مربط الفرس. لاحظوا أننا لم نتحدث على الدول العربية ولا على جامعتها (بالمناسبة هل مازالت موجودة؟!) بل نتحدث عن المجتمع الدولي الذي لا يشكل العالم العربي جزءاً منه للأسف. أيضاً دائماً لنتذكر بأن كل قواه وبعض دوله الوظيفية في الشرق الأوسط وبعضها عربية هي مجرمة بحق الشعب السوري وتساهم في نكبته.