أحمد عبد الرحمن

حجم الخط

بقلم د نبيل عمرو

 

لا أحب خطب ومقالات التأبين، خصوصاً حين تخص رجلاً أعرفه جيداً، وقضيت معه رحلة عمرها أكثر من نصف قرن، وعملنا في زمن كان فيه الموت أقرب والحياة فيه بمحض الحظ والصدفة.
لقاؤنا الأول كان في العام 1965، كنت في السنة الأولى كلية الحقوق جامعة دمشق، وكان هو في ذات الكلية ولكن في السنة الأخيرة، وكانت معنا زميلتنا فريال بطلة قصة حبه منذ ذلك الوقت حتى اللحظة التي لفظ فيها أنفاسه الأخيرة بين يديها.
أحمد عبد الرحمن من نمط الآدميين الذين ما أن تلتقيهم حتى تنشأ بينك وبينهم كيمياء لا تنضب، فما بالك وقد تشاركت وإياه تلك الرحلة الصعبة والطويلة، حيث كنا في جري حثيث نحو هدف يبدو انه يقترب ولكنه بعد كل مقتلة يبتعد.
لقاؤنا الأول هو ذات اللقاء الذي تبدأ به الحياة السياسية لجيل الشباب، اتحاد الطلبة، كان أحمد الأكثر نضجاً والأغنى تجربةً منا نحن زملاءَه، لقد بهرتنا شجاعته وهو يجادل المنافسين الذين كانوا يحتمون بالنظام السوري، ذلك النظام الذي يعتبر الديموقراطية والرأي المخالف مؤهلاً للذهاب الى السجن، ولقد دخله أحمد أكثر من مرة في ذلك البلد.
كنت كلما ألتقيه بعد موقعة بينه وبين أي نظام أكتشف أن فلسطينيته ازدادت تعمقاً في روحه ودمه ووعيه وقلمه، حتى اندمج فيها وصارت قدره الذي لا فكاك منه، كان يجسد لوناً فكرياً مختلفاً داخل حركته "فتح"، ورغم الانتقاد الذي بلغ حد الاتهام والمطالبة بإيقاع أشد العقوبات به بتهمة التفكير والتحليق خارج السرب، إلا أن شجاعته وبراعته في عرض اجتهاده الإشكالي لفتت نظر الزعيم، فأسند إليه مهمة قيادة أهم الأجهزة التي شكلت منظومة الزعامة العرفاتية، فأشرف على تأسيس الإذاعة وإدارتها، وقد اختير لها مكان تأتيه الرياح العاتية من ثلاث جهات، الأردن الذي كانت الثورة خارجة لتوها من صراع دموي معه، وإسرائيل التي كانت على بعد أشبار من المبنى البدائي، وسورية التي كانت تراقب كل حرف مما تبثه إذاعة الأمر الواقع المقامة على أرضها.
كانت تعليقاته اليومية بفعل صليات رشاش تصيب أكثر من هدف، وحين نفد صبر النظام السوري على ما يقال من تلك الإذاعة وما يُسمع منها، أرسل جرافاته فاقتلعتها من الجذور، أيامها دخل أحمد السجن بتهمة ما تزال سائدة حتى الآن .. ارتكاب الكلمة الأخطر من الرصاصة.
كان ياسر عرفات يعد العدة للإقدام على خطوة دراماتيكية تنطوي على قدر كبير من مخالفة الشعارات السائدة، فأطلق مبادرة انقسم القوم عليها بين رافض ومؤيد، عنوانها إقامة السلطة الوطنية على أي شبر من الأرض التي ينسحب عنها الاحتلال، كان قراراً مفصلياً وإشكالياً، فوقع اختيار عرفات على أحمد عبد الرحمن كرأس حربة للتوجه الجديد، فتأسس الإعلام الموحد وعلى رأسه ماجد أبو شرار وتوأمه الفكري والسياسي أحمد عبد الرحمن.
كان ماجد هو المهندس وأحمد رئيس البنائين والعاملين، وعرفات صاحب المشروع ومعه رفاقه من التاريخيين، وفي منعطف كهذا تعرف قدرات الرجال في أداء المهام الصعبة.
وجدت الثورة الفلسطينية نفسها في حضن الجغرافيا السورية المباشرة بعد الخروج من الأردن، وهذه الجغرافيا الطبيعية والسياسية يعززها نفوذ واسع في الساحة اللبنانية، آنذاك أنتج عرفات مصطلحاً خطراً تبين فيما بعد أنه من أكثر المصطلحات السياسية ضرورة للثورة الفلسطينية، وفي ذات الوقت من أشدها مدعاة ًلصراعات وحروب هو القرار المستقل، الذي بدونه لا مبرر لوجود الثورة ومنظمة التحرير.
كان أحمد هو قلب الهجوم لتثبيت هذا المصطلح وتجنيد رأي عام قوي حوله، وكانت فلسطين الثورة التي يرأس تحريرها هي المنبر الأقوى والأعلى صوتاً والأكثر إقناعاً، كنا ننتظر مقاله الأسبوعي لنستمتع ببراعته في المعالجة، وللتعرف على الخط الرئيسي الذي يتعين على كل وسائل الإعلام الالتزام به والتقيد بمضمونه.
أحمد عبد الرحمن جاور الموت من زمن إذاعة الأشرفية في عمان الى درعا الى بيروت، كانت فلسطين الثورة التي استقر فيها أخيراً قد انتظمت في أروقتها كتيبة فريدة من نوعها تضم قوات من اللبنانيين والأردنيين والسوريين والعراقيين والمصريين وعرب آخرين، حتى قيل ان الفلسطينيين فيها أقلية، كانت هذه الأكثر من مجلة تقع في شارع يكتظ بالأهداف المرشحة للنسف والإبادة، كان اسمه شارع الطيبي الذي يضم مجمع مؤسسات الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، وكثيراً من العرب الذين ضاقت أنظمتهم بهم، ووجدوا الملاذ في ذلك الشارع، نجا أحمد ورفاقه بأعجوبة من انفجار قدر الخبراء ان المادة التي استخدمت فيه زاد وزنها عن الثلاثمائة كيلو غرام من مواد شديدة الانفجار. قتل المئات وأصيب المئات ودخل التاريخ الدامي عنوان جديد للشارع المتفجر، شارع "فلسطين الثورة".
جاء يوم إغلاق الملف حين تضافر العالم كله لإنهاء الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، كانت تلك هي المعركة الأطول في الجنوب وبيروت وبعدها المعركة الأخرى في الشمال وطرابلس، كان احمد عبد الرحمن من النخبة القليلة المنتقاة التي قرر ياسر عرفات اصطحابها معه مرة الى الشاطئ الإغريقي وأخرى الى الشاطئ المصري، كان احمد عبد الرحمن الى جوار عرفات في رحلتَي الخروج.
أعاد أحمد بناء الإعلام الفلسطيني الذي هاجر كغيره من المؤسسات، فصارت قيادته في تونس وقاعدته في قبرص كأقرب نقطة الى فلسطين ولبنان وسورية، ذلك المثلث الذي يصدق عليه وصف برمودا الشرق الأوسط والذي يحيي ويميت، وكل من تضعه أقداره داخل أضلاع هذا المثلث إما ان يموت بكاتم صوت او بصلية رشاش او بسيارة متفجرة.
 شاءت الأقدار ان ينجو هذا الشاب الشجاع والجريء مع انه كان من ضمن قوائم التصفية، كانت تونس وقبرص هما المحطة قبل الأخيرة في رحلته الطويلة.
احمد عبد الرحمن رغم السن والمرض وتحول الأحلام إلى كوابيس، ظل حتى اليوم الأخير من حياته صافي الذهن متقد الذكاء طليق اللسان بليغ القول، لم تنل من قناعاته ويقينه كل الانتكاسات والتراجعات التي هزت الأرض من تحت أقدام الظاهرة الفلسطينية، ولبدّت فضاءاتها بالغيوم الداكنة، وكلما كان يدلي بتصريح حول شأن من شؤوننا كنت أُبادره مازحاً: كأنك يا أحمد لم تغادر مكتبك في فلسطين الثورة ببيروت، وكأنك لم تعترف بابتعاد ياسر عرفات وماجد أبو شرار عنك بفعل الموت.
مات احمد بعد ان هده القلق والوجع، أمضينا أيامه الأخيرة معاً، لم تكن كأيامنا الأولى في بداية الرحلة ولا كأيامنا ونحن في منتصف الطريق، كان افضل ما في خلاصاتها أن حلوها القليل ومرّها الكثير عشناه على أرض الوطن، وأفضل حظ لأحمد على مدى أعوامه الستة والسبعين انه نام نومته الأخيرة على فراش من تراب الوطن.