العالم بكليته مشغول بقضية المهاجرين إلى أوروبا.
انشغل العالم بداية، بقصص تهريبهم عبر الحدود وبأعداد من ماتوا منهم غرقاً، وقصصهم مع المهربين والقوارب المتهالكة ثم بقصصهم على الحدود بين الدول الأوروبية نفسها.
في الأسابيع الأخيرة ينشغل العالم بمتابعة الخلافات بين الدول الأوروبية نفسها حول مبدأ استقبال المهاجرين وطرق ومسؤوليات التعامل معهم.
وشاهد العالم جهاراً، كيف تتنصل أوروبا من القيم الإنسانية التي كانت السباقة إلى إقرارها بمواثيق أوروبية ودولية، وكيف تبنى بعضهم مفاهيم ومواقف عنصرية. وشهد العالم كيف تتنصل أوروبا من مسؤوليتها عن نتائج إنسانية مدمرة لأزمة ساهمت هي بشكل أساسي في إشعالها وفي استمرار واستطالة اضطرام نارها.
قصص المهاجرين وفكرة الهجرة تفرض نفسها بقوة أيضاً، على جلسات السامرين، بين تداول عادي وعام للأخبار، الى حديث عن معارف وأصدقاء او أقارب ركبوا أمواج الهجرة وأخبار من عاد منهم ومن علق على الحدود وما زال ينتظر، وأخبار من وصل منهم وبدأ بالاستقرار وبالتخطيط لمن سيسحبه الى المهجر من أهل أو أصدقاء. ولن يكون مستغرباً أن تجد بين السامرين من كان قد هاجر مسبقاً، وآخر يعلن عن نيته اللحاق بركب المهاجرين. ولن تعدم وجود من يعارض ويستهجن موضوع الهجرة من أساسه بمنطق ان الموت في الوطن او الهجرة داخل حدوده يبقى ارحم من الغرق في البحار وارحم من كل المآسي وإهدار الكرامات بداية، ثم فقدان الوطن وفقدان القيمة الإنسانية العليا بالانتماء الى وطن، وستجد في الجلسة، من يستغرب كثيرا حالة محددة لصديق او معرفة يخطط للهجرة مع ان وضعه المعيشي مستقر، إقامة ودخلاً.
ما يلفت بقوة، ان الأغلبية الكبرى من المهاجرين هم من الشباب اليافع والأطفال من الجنسين. مشاهدة عادية للقنوات الفضائية توصل الى هذا الأمر دونما حاجة الى بحث وتمحيص.
ماذا يعني ذلك؟
بالنسبة لأوروبا، فانه سيعني وعلى مدى سنين عديدة قادمة قوة عمل رخيصة تزيد من سرعة عجلة إنتاجها الوطني، ويعني أيضا، رفع "معدل الإخصاب" المرتبط بالتعداد السكاني المتدني جداً في غالبية الدول الأوروبية والمقترب من الصفر بالنسبة لبعضها.
الرهان الأوروبي، ان هذه الهجرة جاءت في غالبيتها الكبرى لتستقر، وان الحديث عن العودة حال هدوء واستقرار الأوضاع هو كلام ابن العاطفة والحنين الذي يبهت ويتوارى مع الاستقرار وانتظام دورة الحياة في بلد المهجر.
وأما الحديث الأوروبي عن القدرة على الاستيعاب والهضم فهو كلام ابن اللحظة وظروفها، فالدول الأوروبية، ولأن مجتمعاتها قوية، قادرة على استيعاب هذا العدد من المهاجرين، واكثر منهم، وقادرة على ضبط أوضاعهم وحركتهم وإلحاقهم بدورة عجلة مجتمعاتها، ولو على الهامش منها، وأما الحديث عن تأثير المهاجرين على نسب المسيحية في أوروبا فهو كلام عنصري لا يمكن أن يصمد ويستمر.
أما بالنسبة للدول المهجورة، والحديث أساساً عن سورية، فانه يعني تأثيراً ضاراً، وقد يكون بالغاً، على المستقبل: مستقبل البلد وتقدمه ومستقبل المجتمع وتطوره، وإضعافاً لقوة العمل والإنتاج وما لذلك من تأثير على اقتصاد البلد ونموه.
بالإجمال، فان هجرة بهذا الحجم وبنسبة من الشباب بهذا الارتفاع هي شكل من أشكال الاعتداء على البلد وإضعاف لمعدلات نموه وتطوره في كل المجالات الوطنية والاقتصادية والتعليمية والاجتماعية، بالذات كون نسبة عالية من المهاجرين هم من المؤهلين سواء علمياً او مهنياً.
ان نسبة من المهاجرين ليسوا فعلا في وضع المضطر للهجرة وانهم يتمتعون باستقرار معيشي ان لجهة الإقامة وجواز السفر وان لجهة الدخل المادي.
هؤلاء فهموا ركوب موج الهجرة كدرجة أعلى من الاطمئنان على مستقبلهم ومستقبل أولادهم بامتلاك جنسية وجواز سفر أوروبيين/ غربيين يوفران لهم فرصا افضل في الإقامة والتنقل والتوظف والتعليم الجامعي للأولاد. ورأوا فيها امتلاك خيار آخر اذا ما تغيرت الظروف وضاقت السبل. وهذا كله، على افتراض انهم عائدون الى حيث هاجروا.
هذا الفهم لهذه الفئة من المهاجرين يظهر بشكل مؤلم حالة عدم الاطمئنان الى مستقبل الأوضاع في بعض البلدان حيث يقيمون، أو عدم اليقين حول احتمالات التغير في أوضاع البعض الآخر منها، أو التبدل في سياساتها وإجراءاتها. إنها بالمختصر تعبير مؤلم عن حالة عدم يقين بأوضاع المنطقة عموما وخوف مما قد يحمله مستقبلها.
يبقى سؤال اخير يخص الفلسطينيين بالدرجة الأولى، فمن ضمن موجات الهجرة هناك آلاف وربما عشرات آلاف الفلسطينيين، معظمهم – ليس كلهم- جاؤوا من مخيمات سورية ومدنها.
لماذا لم تكن وجهة هجرة هؤلاء ارض الوطن المحتل؟
لماذا لم يظهر أي تحرك من أي جهة او جهات أو بمبادرات شعبية تلقائية محضة يقود توجيه هذه الآلاف، ومعهم ربما آلاف أُخرى من المهاجرين العرب، نحو حدود الوطن المحتل؟
لماذا لم يحاولوا اقتحام السياجات التي تفصلهم عن الوطن كما حاولوا اقتحام سياجات الحدود بين مقدونيا وصربيا والمجر وغيرها؟
هل المانع هو الخطر؟ وهل اقتحام أمواج البحر والتهرب بين حدود الدول الأوروبية ثم اقتحام سياجات الحدود بينها، اقل خطرا؟
وإذا كانت القضية اقتحام المصاعب والمخاطر والممنوعات فلماذا لا يقتحم الفلسطيني مصاعب ومخاطر وممنوعات اقتحام وطنه؟ اقله انه في هذه الحالة، يمارس حقا له بوطنه وواجبا عليه تجاهه ولا يتطفل على أوطان الآخرين.
هل السؤال استحضار لصرخة غسان كنفاني في رائعته (رجال في الشمس) "لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟" أم هي تهويمات تتوه في حمى الهجرة إلى الغرب؟
مفهوم الوطن والشعب لدى مشعل: «الخسائر التكتيكية»
09 أكتوبر 2024