مصطفى موند والدكتور تايم لورد..!!

حجم الخط

بقلم حسن خضر

 

المفاجئ أن يبدو الإعلان عن «السلام» الإسرائيلي ـ البحريني قبل أيام مفاجئاً، وأن يكون موقف الجامعة العربية مفاجئاً. لا يحق لأحد يعيش في الواقع، لا في العسل، التظاهر بوقوع مفاجأة من نوع ما، كلما صعد ركّاب جدد سواء من دول النسق السعودي ـ الخليجي، وشمال أفريقيا، أو من جنرالات الجنجاويد، إلى قطار «السلام».
ولا مفاجأة في القول إن القطار يمضي في طريقه، ولن يوقفه أحد. وبقدر ما أرى، ستصعد كل دول مجلس التعاون الخليجي إلى القطار لأسباب بنيوية عميقة، بصرف النظر عن الإخراج والمسافة الزمنية بين راكب وآخر، ونوعية «الضغوط»، وجوائز الترضية، وغناء الجزيرة القطرية «أمجاد يا عرب أمجاد». وإذا جاز الكلام عن معارضة «شعبية»، فستكون في بلدان كالكويت، والبحرين، وعُمان، عرفت حركات وطنية، وتخلّق فيها نوع من الحقل السياسي، بصرف النظر عن حجمه، دون المبالغة، بطبيعة الحال، في تضخيم دور المعارضين وفعاليتهم.
وما ينبغي أن يحذر منه الفلسطينيون، والمعارضون العرب، عموماً، هو تسلل اليمين الديني الرجعي، من باب شيء اسمه «مقاومة التطبيع»، لاكتساب شرعية وجدارة في مسعى الاستيلاء على الحقل السياسي في فلسطين والعالم العربي، وإعادة الاعتبار إلى الإسلام السياسي بعدما أوشك رصيده على النفاد.
ومع ذلك، يندرج كل ما ذكرنا في باب التفاصيل الهامشية. فالمهم، الآن، وفي كل تحليل مُحتمل لواقع لم يعد يحتمل الكلام عن مفاجآت، هو التفكير في معنى ودلالة القطار وراكبيه (سمه ما شئت: التطبيع، أو الحلف السني ـ الإسرائيلي، واشتمه بمفردات «الخيانة» و»الغدر»، ولكن تذكّر أن هذا كله لا يُغني عن التحليل).
والواقع أن هذا ما حاولتُ القيام به في معالجات أصبحت متسلسلة، منذ ربيع هذا العام، بمعنى أن اللاحق يبني على السابق، وأن في هذا ما يعفي من مأزق التكرار الذي يُعلّم الشطار، كلما وقعت «مفاجأة» جديدة. وبما أننا «نتأمل» عالماً قيد التشكيل، فإن الواقع لا يكف عن تزويدنا بالشواهد إما لتأكيد ما ذهبنا إليه أو لدحضه. ولا أجد ما يبرر الثناء على الذات في حقيقة أن شواهد كثيرة تؤكّد ما ذهبنا إليه، وإن كانت لا تجلب سوى وجع القلب والرأس.
وفي سياق كهذا، ينتمي كتاب «الدم والنفط»، لبرادلي هوب، وجوستن شيك، الصادر قبل أسبوعين، إلى الفئة المذكورة، ففيه من الشواهد ما يكفي، ويزيد، لتأكيد ما شكّل العمود الفقري لكل ما ذهبنا إليه من قبل، وما اختزلتُ جانباً منه في معالجة سابقة في عبارة «التاريخ الذي أغلق نافذة وفتح غيرها». فالعالم العربي الذي نعرفه لم يعد قائماً، ضاع فيه مركز الثقل، وتكالبت عليه ثلاث قوى هي تركيا وإيران وإسرائيل. إسرائيل حليف طبيعي للنسق السعودي ـ الخليجي لأسباب بنيوية وأيديولوجية وسياسية لا يتسع المجال لشرحها.
يستثمر هذا النسق، في الوقت الحاضر، وفي ما يشبه صفقة فاوستية تماماً، ومن عيار تاريخي، فعلاً، ثروته، ويقامر بحاضره ومستقبله، في محاولة لهندسة النظامين العربي والإقليمي بما يضمن ديمومته، وسيادته، وتنويع وتعظيم مصادر ثروته، في عصر ما بعد النفط، بالشراكة مع الحامي الإسرائيلي، ومباركة الأميركيين، ويراهن معهم على نجاح موجة اليمين التي تجتاح العالم، في «تنظيف» العولمة من الميراث المفزع للديمقراطية الليبرالية، وحقوق الإنسان، ناهيك عن تسديد ثارات قديمة مع الحواضر العربية. بعبارة أخرى، قضبان سكة القطار الحديدية هي خارطة طريق لمشروع الهندسة الاقتصادية، والسياسية، والثقافية للمنطقة والعالم.
وما يستحق الذكر، هنا، ويعرفه المختصون، أن القوى الفاعلة في النسق المذكور نزعت قناع التقيّة والحذر التقليديين، منذ ظهورها كدول في القرن الماضي، وحتى عقد مضى، في سياق قيادتها، على المكشوف، بعد اندلاع موجة الربيع الأولى، للثورة المضادة في العالم العربي. والواقع أن صعودها السياسي في ظل انهيار مركزي الثقل المصري والعراقي، وثروتها المالية الهائلة، واستثماراتها في اقتصادات تعولمت، يُسوّغ لأشخاص مدفوعي الأجر، وآخرين في أكاديميا أميركية وغربية أفسدوها، ومنصّات إعلامية لا تشكو ندرة الحمقى، وصفها بمفردات مفرطة في النفاق والثناء كقوى مركزية وعُظمى في الإقليم والعالم.
واللافت، كما يتجلى في شواهد يصعب حصرها، أن المراهنين على، والمُستثمرين في، الصفقة الفاوستية يأخذون مفردات كهذه على محمل الجد، ويتكلّم ناطقون «جنود مشاة» أيديولوجيون، باسمهم في منصّات إعلامية مختلفة، عن قيادتهم للعالم، بينما يقوم أشخاص أعلى رتبة تعلّموا في الغرب، وتمرّسوا في عالم المال والأعمال، بصياغة خارطة فعلية للطريق. وضمن هذه الفئة يندرج كتاب «السعودية: ما بين المطرقة الجهادية والسندان الإيراني» لعلي الشهابي، المنشور بالإنكليزية قبل خمس سنوات، والذي قدّم له برنارد هيكل، الأكاديمي من أصل لبناني، بلا حياء.
وما بين كتابي هوب وشيك من ناحية، والشهابي من ناحية ثانية، يصعب أن ينجو أحد، خاصة إذا كان صاحب ذاكرة مسكونة بالديستوبيا من شبحي مصطفى موند، والدكتور تايم لورد، وكلاهما شخصية خيالية. الأوّل رئيس حكومة العالم، والفاعل الروائي الرئيس في «عالم جديد شجاع» (1931) لألدوس هوكسلي، والثاني الشخصية الرئيسة في مسلسل الخيال العلمي «الدكتور هو» عن كائنات فضائية تبدو كبشر عاديين، الذي أنتجته البي بي سي ما بين 1963ـ1989، وأُعيد ويُعاد إنتاجه في أشكال مختلفة حتى الآن.
المفارقة أن هوكسلي غادر الحياة في عام ظهور المسلسل المذكور. لماذا مصطفى موند، والدكتور تايم لورد؟ كلاهما وثيق الصلة بموضوعنا، فلا يمكن فهم «نيوم» و»دبي» كمجازين دونهما، ولأن لغة الكلام الفلسطينية والعربية، في السياسة، تبدو فقيرة إلى حد يثير الفزع. ولنا عودة.