أبا عمار..
انها الذكرى الحادية عشرة وكأنها الاولى.. سنوات عشر ازاحك فيها الموت ولم يغيبك..
اذكر ذلك اللقاء الأول في تونس حين مددت يدك لتتناول رغيفا من تحت كنبتك البالية لتقتسمه معي..هكذا أنت عظيما وبسيطا، رمزا وأبا، زعيما ومقاتلا، لينا وصلبا، غاضبا ومعانقا، قائدا ومرافقا وكنت سيدا وخادما.. كنت كل ذلك وكنت قبل كل ذلك "فلسطين"..
لا أستطيع أن أملأ ثقوب الذاكرة بالكلمات.. ولا أتجاوز الجراح.. لم تبكك عيوننا بل قلوبنا.. كان يوم رحيلك يوم أبكيت فيه السماء قبل الأرض.. وأبكيت الرجال قبل النساء والأطفال.. ودّعك الشجر والحجر.. كنت غضباً.. مسيرة وحلماً.
أشعلت بشعبك ناراً مؤجّجة تاريخاً ونضالاً.. بنيت فيه حلماً.. تحرسه الأمهات حارسات حلمك المقدس.. كسرت القيد وبددت الظلام ولعنت القهر وثرت على الظلم وتحديت الخوف..إنك عاصفة.. واشتقت منك العاصفة.
كوفيتك وسام للثوار.. شعار لكل الأحرار.. يا ختيار الثوار!
كم انحنى الموت أمامك.. والقذائف تنهمر بين ذراعيك وبين إصبعيك اللتين تشيران إلى النصر. ولا تنفجر حياءً من قوة أحلامك.
أبا عمار:
في الضفة المحتلة يتنامى نظام الابارتهايد ويتكرس، غزة ما زالت محاصرة، وفي الشتات يزداد الشوق للوطن، وعندنا في الداخل تنمو العنصرية وترفع الفاشية رأسها. في كل اسبوع قانون أسود أو أكثر. يضيقون علينا سياقات الحياة في الأرض والمسكن في الرواية والهوية.. ويتجندون ليمنعوا عن فلسطين عضويتها في الأمم المتحدة.. يعتدون علينا طلابا وعمالا هنا وهناك.
أبا عمار يا زيتوننا وزيزفوننا..
من دون فلسطين لن نصل إليك ولن نفهم عليك، تلك لغتك التي أتقنتها بألف لهجة ولهجة ولكنها كانت لغة واحدة، تبدأ البسملة فيها بالأقصى المبارك وينتهي الحمد لله فيها بالفدائي الأول عيسى المسيح ومعنى القيامة "إنا فتحنا لك فتحاً مبينا".
لن ندع الذين راهنوا على تفرق ريح هذا الشعب بغيابك يفرحون ويجعلون علامة الغياب عرساً لهم يرقصون على قبورنا، ولن نقبل بتحطيم البيت من داخله، بل ستبقى وصيتك وكوفيتك التي شرفتني بمداعبتها رمزاً لكرامة هذه الأمة وشرف هذا الشعب المتعطش للوحدة الوطنية والحرية. وكما قلت لك آنذاك "ان سقطت هذه الكوفية سقطت كرامة العرب".. أنت يا سيد الكرامة!
نعم كان ياسر عرفات رمزا بطلا شأنه شأن شعبه بأكمله. شعب من الأبطال الصامدين.. الملتصقين بالأرض والوطن، ولكنه لم يكن ابدا مثل تلك الأنظمة العربية المستبدة التي تصادر حق شعوبها بالبطولة ليبقى "الزعيم" هو البطل الوحيد على الورق وعبر بيانات الشجب والاستنكار.. انه زمن الشعوب الغاضبة التي لا يعنيها ما يؤمن به الزعيم ولكن يعنينا ويعنيها ماذا يفعل مع هذا الايمان: يبني أم يهدم، يظلم أم يعدل، يخلص أم يخون، يسلب أم يمنح، يحب أم يكره، يصدق أم يكذب، يحرر أم يستعبد، يزرع أم يقلع، ينشر الأمن أم يطلق وحش الخوف يلتهم قلوب الناس.
لم يكن أبو عمار نبيا معصوما. ولكنه كان زعيما أصاب واخطأ، تحدث واصغى، رحل واقام، انتصر وخسر، تقدم وتراجع واندفع واستراح وبقي دوما سنديانة فلسطين وزيزفونها اليافع.
مثير هو ذلك المشهد: الشعوب العربية تبكي دما من أجل ان يغيب زعماؤها بينما فلسطين تبكي دما لغياب زعيمها.
هذه البلاد بلادك وبلادي.. انها بلادنا جميعا..هذه بلاد كل من يخلص لها ويجرؤ على الدفاع والذود عنها..اما الجبناء فلا بلاد لهم لأن جبنهم هو البلاد الوحيدة التي باستطاعتهم ان يرحلوا اليها الآن غير مأسوف عليهم!
ناديتك قبل ٩ أعوام.. قم يا ياسر.. قم من نومك المؤقت.. قم معي يا طائر الفينيق.
اتأذن لي ثانية أن أطلب بأن أحملك بين يدي وأعتذر لروحي لأنها أيقظتك من زمنك الأبيض.. تأتي معي إلى الحلم ترى شوارعاً تعرفك، حارات وأطفالاً وخطوات وأشجاراً وأصدقاء وناسا.. ومخيماً ومعتقلات. فبأي نبض أزرع الوردة في مقامك الأسمى.. كل ما في المدينة من حزن ومن فوضى ومن موت واحتراب.. قم لنطرد الجراد عن المكان.. هنا وهناك.. اخرج معي إلى هذا الليل الطويل.. فالموت لا يدفن الحقوق وإن السلام غناء.. حياة هنا.. كما قال محمود
..
ايها الناس يا ابناء شعبنا العظيم:
نحن شعب الجبارين ونحن المستضعفون بالأرض.. قال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا".. صدق الله العظيم
لن تسقط راية الفارس التي حملتها..
ما زلت أحبك رغماً عن غيابك.. أو قل أكثر بعد غيابك..
ما زلت اليوم حلماً.. وما زلت الحاضر غداً..
يا سيد الرجال.. يا سيد الوفاء.. أيها الفارس الذي ترجل ويا أيها الريح التي حركت الجبل.
تحيا فلسطين وعاصمتها القدس الشريف.. الحرية للاسيرات والأسرى والمجد والخلود للشهداء
تصبحون على وطن.. تصبحون على وطن الكوفية!..
وكما قلتَ لي في غرفتك المحاصرة: يا أحمد، الحياة بدها وقفة عز..
سلامٌ عليك من ارضٍ سلام.. صار اسمها واسمك صنوان لا يفترقان، فلسطين وأبو عمار