سر الشعبية الجارفة لمروان البرغوثي

حجم الخط

بقلم هاني المصري

 

 في الذكرى التاسعة عشرة لاعتقاله، وبمناسبة يوم الأسير الفلسطيني التي تحل في السادس عشر من هذا الشهر، سأحاول تفسير الشعبية الجارفة التي يتمتع بها الأسير القائد مروان البرغوثي، الذي حكم عليه بخمسة مؤبدات وأربعين عامًا، من خلال محكمة مدنية، وهذا شيء نادر الحدوث، ويُصعّب مسألة إطلاق سراحه، فهو كما يقال من بعض خصومه ومنافسيه، وحتى من بعض أصدقائه، ليس الأسير القائد وحده، فشعبنا قدّم مئات الآلاف من الأسرى، وهناك العشرات والمئات من القادة الذين قضوا وراء القضبان مثله، وبعضهم أكثر منه، ومنهم من لا يزال، ولكنهم على أهميتهم الكبرى لم يحتلوا المكانة التي يحتلها أبو القسام. فلماذا؟ هذا ما أحاول أن أعرضه في هذا المقال.

سأبدأ بعرض سريع لسيرة مروان النضالية، في محاولة لتقديم تفسير مقنع لشعبيته الجارفة.

بدأ مروان النضال التطوعي والتنظيمي وهو فتى، حيث اعتقل وهو في المرحلة الثانوية، وحصل على شهادة الثانوية وهو في السجن، وأمضى في المعتقل 5 سنوات، حيث عاش تجربة الحركة الأسيرة، وانخرط بعد إطلاق سراحه في الحركة الطلابية وأصبح عمودها الفقري، وتجلّى ذلك بانتخابه 3 مرات رئيسًا لمجلس الطلبة في جامعة بيرزيت، ولعب دورًا وحدويًا للحركة الطلابية، ومن ثم أبعد إلى خارج الوطن في العام 1987 لمدة 7 أعوام، وكان حينها رئيسًا لمجلس الطلبة. وكان ينظر كل من الإسرائيليين والفلسطينيين إلى مروان البرغوثي بعد أبو جهاد على أنه مهندس الانتفاضة الأولى وعقلها المدبر، ومن ثم انتخب عضوًا في المجلس الثوري لحركة فتح في العام 1989، حيث كان أصغر عضو في المجلس.
عاش مروان تجربة التشرد، وعرف ما يعانيه شعبنا في أماكن اللجوء والشتات، حيث كان ينظر إلى الشعب الفلسطيني ككل، ولا يقتصر على شعبنا في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهذا منحه نظرة شاملة تعكس مصالح مختلف التجمعات الفلسطينية.
وكان مروان على تواصل مستمر مع شعبنا في الداخل ومع النخب الفلسطينية على اختلاف أنواعها داخل الوطن وخارجه، حيث كان متواضعًا يتقن الاستماع لوجهات النظر المختلفة معه من دون التقليل من شأنها.
وأكسبه قربه، وهو في الخارج، من الشهيدين ياسر عرفات وأبو جهاد، معرفة وخبرة قيادية وفي كواليس القيادة الفلسطينية، وبذلك تميز بحصوله على تجربة الداخل والخارج، وعاد إلى أرض الوطن بعد 7 سنوات من الإبعاد، وإذا أضفنا إلى ذلك ربع قرن قضاه في الأسر، والسنوات التي كان فيها مطاردًا، فنجد أنه أمضى معظم حياته مناضلًا ومعتقلًا ومطاردًا لا يثنيه أي شيء عن مواصلة نضاله، حتى أنه لم يعش مع أسرته وأبنائه (قسّام، عرب، شرف، ربا) إلا سنوات قليلة، وكانت زوجته فدوى نعم الزوجة والمناضلة والقائدة، وهي حملت قضيته في مختلف أنحاء العالم.
مروان شجاع في الحرب وشجاع في السلام، فهو اعتبر أن أوسلو فرصة ويجب إعطاؤه الفرصة، وعمل على إقناع التنظيم به، ولكنه سرعان ما اكتشف أن أوسلو لم يؤد إلى إنهاء الاحتلال ولا إلى وقف التوسع الاستعماري الاستيطاني، وأن إسرائيل استخدمت العملية السياسية لاستكمال تطبيق مشروعها الاستعماري، فقاد الانتفاضة بكل شجاعة ومثابرة وإصرار.
وهنا من المفيد الإشارة إلى أهم ما يميز أبو القسام قناعته بأن العمل السياسي والمفاوضات من دون مقاومة استجداء، وأن المقاومة من دون عمل سياسي ومن دون استثمارها مغامرة.
إذا نظرنا إلى علاقة مروان بالسلطة نلاحظ أنه رفض الحصول على موقع في الحكومة رغم تلقيه عروضًا بذلك، حيث فضّل دائمًا أن يكون منتخبًا في المهام التي تولاها، فقاد اللجنة الحركية العليا لفتح، حيث كان في كل مكان وعلى علاقة مباشرة مع الجميع، وكان متواجدًا في كل مظاهرة ويلبي نداء كل أم لأسير أو شهيد، وانتخب عضوًا في المجلس التشريعي في العام 1996، وكان عضوًا قياديًا فاعلًا حريصًا على قيام السلطة التشريعية بدورها الرقابي والتشريعي، وفضّل العمل الميداني وداخل التنظيم، وقاوم تذويب حركة فتح في السلطة من خلال توظيف كوادرها وأعضائها في الوزارات والأجهزة الأمنية، ما أضعف قدرة التنظيم على تصويب السلطة من خلال المساءلة والمحاسبة، وكان مكتبه مفتوحًا دائمًا للجميع ولا يرد طلبًا يستطيع تلبيته، ولو على حسابه الشخصي.
وروى صديقه زهير كيف كان لا يتخلّف عن نداء الواجب النضالي في أي وقت، وذكر أنهما كانا مفروض عليهما الإقامة الجبرية، وخرج المناضل محمد الجبريني من السجن وهو من مخيم بلاطة فقرر الذهاب إليه من رام الله لتهنئته بالحرية.
وإذا عرجنا على تواجده في السجن، فيكفي أنه قاد وشارك في إصدار وثيقة الأسرى التي كانت نقطة الانطلاق لكل الجهود الرامية لإنجاز الوحدة، وساهم في بقاء المعتقلات مدرسة للعلم والإنتاج والتثقيف والنضال، فقاد إضراب الأسرى في معركة الحرية والكرامة في العام 2017، الذي استمر 43 يومًا، وتعرض للعقاب والعزل بسبب نشاطه 23 مرة، ففي كل مرة يرسل رسالة أو يكتب مقالة أو ينظم عملًا مقاومًا في السجن أو خارجه يعاقب بالعزل،
وهو قدم مثلًا برفض الامتثال للمحكمة الإسرائيلية، خصوصًا أنه نائب منتخب في المجلس التشريعي.
يفسّر د. خليل الشقاقي، مدير المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية سر شعبية مروان بأنها تعود إلى أنه مناضل مؤمن بالحل السياسي بلا تهور ولا تخاذل، وشديد الإيمان بالوحدة الوطنية المستندة إلى المقاومة، وشخص مقاوم للفساد وغير قابل للإفساد، وكان يَنظر إليه الشعب حتى في حياة ياسر عرفات كخليفة له.
وما يؤكد ذلك أن أكثر من 50 استطلاعًا للمركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية أجريت منذ العام 2007 وحتى الآن أعطت مروان نسبة كبيرة من التأييد تمكّنه من حسم سباق انتخابات الرئاسة بأغلبية كبيرة، إذ حصل على ما معدله 60% في حال ترشح هو وإسماعيل هنية فقط، وقد وصلت نسبته في بعض الاستطلاعات إلى 67%.
وفي الاستطلاع الأخير الذي صدر عن المركز، حصل مروان على 63% مقابل 33% لإسماعيل هنية في حال كانا هما المرشحَيْن فقط للرئاسة، وعلى نسبة 48% مقابل 29% لإسماعيل هنية و19% لمحمود عباس في حال تنافس الثلاثة في الانتخابات الرئاسية، وهي نسبة مساوية لمجموع ما حصل عليه عباس وهنية مجتمعَيْن. كما أن معدل آخر 10 استطلاعات صادرة عن نفس المركز تعطي مروان 42% إذا ترشح مقابل عباس وهنية.
كما أظهر الاستطلاع أن القائمة التي يشكلها مروان البرغوثي ستحصل على 20%، مقابل 27% لقائمة حماس و24% لقائمة فتح، فيما قالت نسبة 28% إنها ستصوت لقائمة يشكلها مروان البرغوثي مقابل 22% لقائمة فتح الرسمية، بزيادة 3 نقاط عن الاستطلاع قبل الأخير (كانون الأول 2020)، الذي منح قائمة مروان 25% مقابل 19% لقائمة فتح الرسمية.
إضافة إلى كل ما تقدّم، وجد البرغوثي الاهتمام العربي والعالمي، فتكفي الإشارة إلى أن 30 مدينة فرنسية منحته مواطنة شرف، ومثل هذا الأمر لم يحصل إلا مع نيلسون مانديلا. كما رشحه عدد من الحاصلين على جائزة نوبل للحصول على الجائزة، وهذا يظهره بأنه مقاتل من أجل الحرية، ويدحض وصف "الإرهاب" عنه، فضلًا عن أن الحملة لإطلاق سراحه في العام 2012 انطلقت من زنزانة مانديلا.
وحتى يكتمل التفسير، لا بد من القول إن الفلسطينيين بعد رحيل الشهيد القائد ياسر عرفات يبحثون عن زعيم سياسي يسد الفراغ، ويعبر عن المشروع الوطني، حيث لا يزال ينظر الفلسطينيون إلى مروان على أنه الزعيم القادر على سد الفراغ الذي خلفه أبو عمار منذ أكثر من 16 سنة.
وفي هذا السياق، نقل عن عاموس جلعاد، المنظر الإستراتيجي في وزارة الحرب الإسرائيلية لمدة طويلة، بأنه فسر عدم إطلاق سراح مروان رغم المطالبة الواسعة، حتى من أوساط إسرائيلية، لأنه أبو عمار جديد، يمكن أن يفاوض ولكنه لن يتخلى عن المقاومة لتحقيق حلم شعبه.
وقد انتخب مروان عضوًا في اللجنة المركزية في مؤتمر فتح السادس العام 2009، وهو في الأسر، وحصل في انتخابات المؤتمر السابع للحركة على أعلى الأصوات.
إن ترشح مروان للرئاسة يعيد القضية إلى طبيعتها كقضية تحرر وطني بحاجة إلى دعم النضال الفلسطيني لدحر الاحتلال وليس البقاء في أسر عملية سلام من دون سلام، وهذا سيعيد القضية إلى سلم الأولويات عالميًا، فمروان أصبح رمزًا عالميًا ويجب استثماره من هذه الناحية حتى الحد الأقصى لخدمة معركة شعبه التحررية، وهنا أستحضر مقالة المفكر والأديب المبدع اللبناني الفلسطيني الياس خوري "رئيس أسير لشعب أسير".
 
علاقتي بالقائد الأسير
بدأت علاقتي المباشرة مع أبو القسام قبل اعتقاله بمبادرة منه في العام 2001، حيث حرص على تبادل الرأي والحوار معي، واستمر الحوار عبر محاميه الخاص حتى الآن، وأثمرت هذه العلاقة كثيرًا، وعبرت عن نفسها بمشاركته في المؤتمر السنوي الثالث لمركز مسارات "إستراتيجيات المقاومة" في العام 2014، حيث قدم ورقة بحثية ألقتها عنه زوجته فدوى، وعكست هذه الورقة شخصية مروان بأنه ليس مناضلًا كبيرًا فقط، وإنما مفكر وسياسي وصاحب رؤية، وقد حصل على شهادة الدكتوراة وهو في السجن.
أهم ما يميز مروان أنه إنسان متواضع وبسيط وبشوش رغم تمتعه بصفات قيادية تتجلى في كل أعماله، خصوصًا أثناء الخطابة، فهناك كيمياء بينه وبين الشعب، فهو من الشعب وإلى الشعب جاهز دائمًا للعطاء والتضحية.
أذكر بعد مرور عام على الانتفاضة الثانية أنه نظم ندوة داخلية بمشاركة العشرات لتقييم الانتفاضة وآفاقها، وكان الوقت المسموح للمتحدثين عشر دقائق فقط، بينما أنا تحدثت لمدة 38 دقيقة، وعندما احتج بعض الحضور قال لهم: "ليكمل، فهو يقول آراء من خارج الصندوق، ويجب الاستماع لها والتوقف عندها".
بعد هذا العرض أتمنى أنني استطعت تفسير سر شعبية مروان، فهو قدم لشعبه كل ما يمكن تقديمه، وشعبه وفيّ له ويقابله بدعم كبير يستحقه، لدرجة لم يعد هناك منافس له في أي انتخابات رئاسية.