الحدث الفلسطيني ـ القاطرة التي تعطّلت مكابحها..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

بقلم: حسن خضر

حالت وعكة خفيفة نجمت عن الجرعة الثانية للقاح «كورونا» دون مقالة الأسبوع الماضي. وها نحن نعود، اليوم، إلى الحدث الفلسطيني، وما زلنا في البعد الإسرائيلي. فقد ختمنا في معالجة سبقت بأسئلة تتصل بمشروع الدولة الإسرائيلية، على خلفية إحساس الإسرائيليين بأن مشروع الدولة لم يكتمل بعد.
ولا ينبغي أن يفوتنا أن ما وصفناه بالحدث الفلسطيني (ملابسات وتداعيات ودلالات الحرب على غزة، والإضراب التاريخي الكبير في فلسطين الانتدابية) تصادف في الزمان والمكان، ما بين شهري أيار وحزيران من هذا العام، مع ذكرى حدثَين حاسمَين، وقعا في تاريخ الصراع في فلسطين وعليها، هما قيام إسرائيل، وحرب حزيران. الأوّل قبل 73 سنة، والثاني قبل 54 سنة.
يستحيل الفصل بين هذه الأحداث، ويستحيل، بالقدر نفسه، فهم هذا أو ذاك دون الآخر. وهذه دلالة جديدة لمعنى حدث لا «يُكتب» وحسب، بل ولا يكف عن «كتابة» نفسه، أيضاً. والواقع أنني وضعت معالجتين سابقتين، وأضع هذه المعالجة، ومعالجات لاحقة، وثيقة الصلة، تحت عنوان عام ورئيس هو «الحدث الفلسطيني»، ويليه العنوان الفرعي. والسبب، بقدر ما أرى، أن تاريخ إسرائيل جزء من تاريخ فلسطيني أكبر، لا العكس.
وهذه فاتحة معالجة اليوم. وبقدر ما يتعلّق منها بالبعد الإسرائيلي ففي ما وُصف بالصدام في المدن المختلطة ما يوحي بأن حرب العام 1948 لم تصل إلى نتيجة حاسمة بعد، وفي نجاح فلسطينيين في غزة في قصف تل أبيب ما يوحي بأن حرب العام 1967 لم تصل إلى نتيجة حاسمة بعد، وفي الإضراب الكبير، من النهر إلى البحر، الذي توّج هذا كله ما يوحي بأن الهوية الوطنية (التي بدت وكأنها لأيتام على موائد اللئام، خاصة السنوات القليلة الماضية) ما زالت قوّية وعفيّة.
يمكن ترجمة كل ما تقدّم بأطنان من التحليلات، وفي عبارات وصيغ مختلفة. ولكن الخلاصة واحدة: إسرائيل، دولةً وفكرة، في ورطة وجودية، لا لأن الفلسطينيين من طينة غير عادية من البشر، ولكن لأن في مجرّد وجودهم الفيزيائي ما يثير الذعر.
لذا، تبدو مع وجود كل هذه الأسلحة النووية، والآلة العسكرية جيّدة التزييت، والاقتصاد القوي، كقاطرة تعطّلت مكابحها، وخرجت عن القضبان. وفي الأثناء تتفنن في التنكيل بالفلسطينيين: تضعهم بالمعنى الحرفي للكلمة في أقفاص جغرافية، وتزعل منهم إذا رأى فيهم الآخرون صورة الضحية، فلا يحق لأحد ما بين النهر والبحر أن يكون ضحية غير اليهود.
لهذا كله اسم واحد في لغة العلوم السياسية هو الأبارتهايد. وحتى هذا النظام لا يبدو حلاً مثالياً في نظرهم لأنه قد يخلق واقع الدولة ثنائية القومية، ولأن المؤشرات الديموغرافية تجعل من الفلسطينيين نصف السكّان في فلسطين الانتدابية. لذا، وباستخدام عبارة رائجة بين الإسرائيليين عن كون أفضل حل دائم هو المؤقت، وبالعودة إلى فكرة قديمة لموشي آرنز (ثاني اثنين من معلّمي بنيامين نتنياهو الأوائل، كان أولّهم شمعون بيريس) مفادها «أن ما لا يبدو ممكناً اليوم قد يصبح ممكناً في وقت آخر»، فإن نظام الأبارتهايد هو أفضل حل «دائم» مؤقت، وعلى العالم أن يقبل، إما بالتواطؤ والتبريك أو بغض النظر والتجاهل، وفي الحالتين لا بأس من لوم الفلسطينيين، أي الضحايا.
والمشكلة أن مشكلة هذا الحل، أي تطبيع نظام الأبارتهايد، هي مع العالم ومع الفلسطينيين في آن. فالعالم بما فيه من قيم ومصالح وتعددية وتناقضات لا يستطيع غض النظر، ولا يملك الفلسطينيون وصفة سحرية للغياب، أو رغبة في الاستسلام. وفي ظل وضع كهذا فلا إمكانية لتطبيع الحل دون تغيير العالم.
تغيير العالم أكبر من إسرائيل، بطبيعة الحال، ولكن عودة الروح إلى العنصريات والفاشيات الأوروبية على جناح موجة الشعبوية الصاعدة، وما يوازيها من صعود الجهاديات الإسلامية، وفي خلفية هذا كله مصالح اقتصادية تعولمت، فتحت طاقة للإسرائيليين، خاصة منذ هيمنة نتنياهو، واليمين القومي الديني على آليات صنع القرار. قلنا: إن تغيير العالم أكبر من إسرائيل، ولكن وجود شخص من فصيلة ترامب، في البيت الأبيض، أضفى على الطموح الفاوستي ما يستدعي خداع الذات من وقاحة وثقة زائدة بالنفس.
وبهذا المعنى، لا معنى لـ»سلام إبراهيم» ما لم نفسّره كتطبيع لنظام الأبارتهايد، وإضفاء شرعية عربية ودولية عليه، وما لم نر فيه جزءاً من عملية أكبر لتغيير العالم. هذه هي الدلالات التي غابت عن أعين الكثير من المراقبين. وهي الدلالات نفسها التي ينبغي أن تُقنع الفلسطينيين بحقيقة أن الصراع في فلسطين وعليها جزء من صراع أكبر يشمل العالم. ولا أعتقد أن ما لديهم من بضاعة أيديولوجية في الوقت الحاضر سيمكنهم من استثمار هذا الباب على أفضل وجه.
واللافت، وما لا ينبغي حجبه عن الأنظار أن شركاء «سلام إبراهيم» التحقوا بركبه، في السر والعلن، لأنهم أدركوا، أيضاً، حقيقته كجزء من عملية أكبر لتغيير العالم. فما حاجة العالم إلى الحق في تقرير المصير، بل وحتى السياسة، والحرية، وحقوق الإنسان. ومن حسن الحظ أن قوى مختلفة في العالم لم تعد قادرة على تجاهل الصلة العضوية بين نظام الأبارتهايد من جهة، ومحاولة تغيير العالم نفسه، من جهة ثانية. والواقع أن تسليط الضوء على صلة كهذه لا ينجم عن شطارتنا، بل عن وجود قاطرة تعطّلت مكابحها، وخرجت عن القضبان، لأنها لم تعد قادرة على صنع السلام، ولا على انتصار حاسم وأخير. فاصل ونواصل.